شقراء الياسمين
العربي الجديد- انتصار الدنان
احتشدوا في غرفة صغيرة يضيق فيها النّفس. رائحة الموت والدّم والخوف تدخلها مع كلّ هبّة للهواء إن هبّ.
كانوا كلّ يوم صباحًا في الرّبيع يجلسون عند عتبة الدّار الّتي لم يبق منها إلّا غرفة متعفّنة. لا أبواب لها. فيها شبّاك واحد تفتّقت جوانبه من شدّة القصف.
على عتبة هذا الدّار كانت تهبّ رائحة الياسمين الّتي تختلط بهواء غزّة الأزرق، وعبقة القهوة العربية التي كانت تتلألأ في فناجين الجيران كاللآلئ، وصوت المتحدّثين يقصون حكاياتهم الصّباحية مجتمعين معًا نساءً ورجالًا، والحديث عن العمل والطّبخ والأولاد والطّقس والمستقبل، والوطن. كانت أحاديثهم تدور حول كلّ شيء إلا عن الخوف.
وحدها فتاة الياسمين كانت تنسلّ من بين المجتمعين وتجر قدميها نحو الشّارع المؤدّي إلى شجرة الياسمين القريبة من المنزل. تدخل رائحة الياسمين إلى أنفاس تلك الفتاة الشّقراء، ذات العينين الخضراوين كسهل غزّة الممتدّ نحو جبل الكرمل، وذات الفستان اللّيلكيّ الّذي يشبه غروب بيتها، فتشدّ قدميها لتتدحرج نحو تلك الياسمينة القريبة من بيتها، تقطف منها زهرة وتشكّها في شعرها المتدلّي على كتفيها كالشّمس حين ينعكس ضوءها فوق أزرقها، وتسير نحو أحلامها.
كم كانت أحلامها بسيطة، ريشة وألوانًا وزقزقة عصافير في حديقة بيتها، ترسم عناقيد العنب، ورحلات القمح في الحقول، وأحلام الصبية ووطنًا دافئًا.
سقط صاروخ على مرسمها وقتل حلمها وقص أصابعها الملطخة بالأصباغ، غاب وهج الشمس خلف الأزرق الذي كانت تحب. راح يلملم الحزن عن أهدابها الّتي انسلخت منها سعادتها، وراحت تبحث عن ظلّها في ذلك الشّارع الّذي نفض عنه الياسمين، وصار مقابر تنبعث منه رائحة البخور. صارت تحسّ بأنّ أنفاسها متقطّعة، وبأنّ نهارها لا يختلف بشيء عن ليلها، كلاهما فقدا نور القمر واختفت منهما النّجوم، لتجثو فوق القبور فقط، تحرسها وتصلي كي تنبت سنابل تطعم كلّ الجياع.
شعرت بأنّها صارت كجذع سنديانة قطعته قذيفة، وسالت دماؤه فوق تلك التّربة الّتي تشقّقت، فارتوت من جديد ونبت اللّيلكيّ فيها، بعد أن كانت تحسّ بأنّها عجوز لا فائدة منها، نعم، قطعوا أوصالها، ورموها وقودًا لطعامهم المبلّل بالتّعب والقهر والجوع والخوف.
فقدت أطراف أصابعها، واغتالوا ألوانها، وتصبّغت وجنتيها بلون الموت، واحتشدت مع من احتشدوا، وفي دقيقة واحدة وهي تناجي الله سقطت قذيفة أخرى، ولكن هذه المرة لم تسقط في الحديقة، بل سقطت في غرفتهم المتعفنة المحتشدة بالأرواح، فتصاعد صوت الصّراخ البائس، لا منجد، لا مسعف، لا من يستنجدون به. قضوا جميعًا، سكتت أحاديث الصّباح، ظلّ الدّرج وحيدًا وشجيرات الحبق يبست، واندلقت القهوة على الملابس، وتكسّرت الفناجين. ظلّت وحيدة في حزنها، تبحث عمن يصفّف لها شعرها البائس الّذي كان حظه أن يعتلي رأسها ويسرح على كتفيها، كم تمنى لحظتها أن يكون في مكان آخر! كم تمنى ألا يكون في هذه البقعة من الأرض، يعيش بسلام.
حملت يدها المبتورة الأصابع، وتدحرجت على الطّريق نحو رائحة البخور، وقالت بحسرة: كيف يتسلّل إلينا الموت؟ كيف تقطّعنا القذائف وتحوّلنا إلى أشلاء؟ وماذا بعد موتنا؟ هل سيستولون على أشلائنا؟ على هوائنا؟ على أنفاسنا؟
كانت ذات الشّعر الأشقر، قبل العدوان بعام، تحلم كباقي فتيات جيلها، تحلم بأن تكون طبيبة وهي الّتي تحبّ الرّسم، ترسم الأحلام والمستقبل، وأحاديث الجيران، ولعب الأولاد، وحلقات المرح، وألعاب الصّبيان وصرخاتهم، والحارة، وعتبة الدّار، وأشجار التّين والعنب وزهر الياسمين والبنفسج.
صباحًا، كانت تستيقظ على صوت أمّها يندهها لتتناول فطورها قبل الذّهاب إلى المدرسة. البيض المسلوق وكوب الحليب بركة البيت وإنتاجه.
تقبّل أمّها قبل الخروج من البيت، تودّع أخوتها وأباها، وتتدرج قدماها في ذلك الشارع المؤدي إلى مدرستها، تلتقي رفيقات لها ويسرن وهن يحملن آمالًا كبيرة. حقيبتها ملأى بتلك الأحلام. تريد أن تصير طبيبة جراحة، تداوي أوجاع الفقراء في غزة. الوطن مسلوب، محتل، أبوابه مغلقة، والفقر استشرى بقوّة، والأعمال قليلة، لكن هناك أمل بتبدّل الأحوال.
والدها مزارع، وأمّها تعتني بالدّجاجات والبقرة، وبعض المزروعات التي تؤدي الغرض، التي زرعها أبوها. التعليم مجاني، فمدارس الوكالة تخفف العبء.
الطب قد يفتح أمامها الآفاق، ويساعدها في مداواة الناس. أخوها أيهم يطمح في أن يكون مهندسًا، ورؤوف صحافيًّا مشهورًا، وأروى، أختها الصّغيرة الّتي ما زالت تدبدب أمامها، وتلحق بها إلى الباب لتكسب قبلة أو ضحكة، أو أملًا بالحصول على السّكاكر، طموحها الوحيد الحصول على ضحكات متناثرة من الحليب.
كلّ تلك الآمال والأحلام تبدّدت وصارت مجتمعة في قبر تفوح منه رائحة البخور، وضحكات، وأمنيات.
لم تعد ذات الشعر الأشقر تحلم، فأحلامها نائمة تحت التّراب، العائلة، الجيران، وأطراف أصابعها، الأحاديث، الضحكات، خسرتهم في تلك الغرفة التي احتشدت أحلامهم فيها، وصارت مخبأً لوجعهم. كلّ تلك الأحلام تبدّدت، ولم يعد لديها غير تلك الحقيبة الّتي تبدلت مهامها من حياة إلى قبر جماعي، تذهب إليه كلّ صباح من دون أن توقظها أمها وتتناول فطورها وتعانق والدها وتلحق بها الصغيرة أروى، تحمل فيها دمعًا يختنق في مقلتيها، تحاول جاهدة ألا تسكبه حتى لا يحس بها والدها، فهي الابنة البكر، والبكر هو أساس البيت وركنه الأول وعاموده.
تضاريس وجهها تغيّرت، تجعّدت، واسودّ لون عينيها، وابيضّ شعر رأسها، وعادت تحمل بذور القبور وتعود إلى عتبة الدّار، ترسم خيمة، وتحتمي في ظلّها.