المكتب الإعلامي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في لبنان
قيمةُ وعظمةُ الثوارِ من طراز غسان كنفاني أنَّ حضورَهم يطغى دوما على غيابِهم، هذا الحضورُ الذي يتجسد في الميدان العسكري ولا ينتهي في ميادين الفكر والسياسة والثقافة والوعي، في النقد ومعرفةِ العدو وفَهمِ الواقع وكل ذلك يرتبط عند غسان بمعاناة شعبه في فلسطينَ والشتات، لأن غسان اكتسب وعيَه ومعارفَه من مدرستين عظيمتين، مدرسةِ الشعب وتحديدا في المخيمات، حيث عايش من موقع اللاجىء وليس السائح معاناةِ اللاجئين الفلسطينيين خاصة أثناء عملِه في التدريس عندما لاحظ ان بعضَ التلامذةِ ينامون في حصتِه، عندها أدرك الظروفَ الصعبة التي تَفرِضُ عليهم العملَ الليليَ للمساعدة في تأمين قوتِهم وإعالة أُسَرِهِم، والمدرسة الثانية هي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، هذا الحزبُ الثوريُ بقياداته الثورية وبفكرِه الثوري وأخلاقِه الثورية السابحِ في بحر الجماهير، هذه المدرسةُ صقلت شخصيتَه وأطّرت إبداعَه ووظّفت قدراتِه في خدمة الثورة والشعب.
ولأن الأدب المقاومَ او المقاومةَ الثقافية من أسلحةِ الشعوب المقهورة للدفاع عن هُويتِها وتاريخِها في مواجهة إبادة المحتل والمستعمر كانت المقاومةُ حاضرةً في أدب وفكر وإنتاج غسان كنفاني، كيف لا وهو الذي درس ماهية الكيانِ الصهيوني ودورِه الوظيفي كقاعدةٍ استعمارية استيطانية للإبقاء على تقسيم الوطن العربي ومنعِ تطورِه وتوحدِه وتنميتِه، لذلك فالمقاومة عند غسان لا تقتصر على شكلٍ واحد إنما هي مقاومةٌ شاملة تطال كلَّ مناحي الحياة، وتبقى المقاومةُ المسلحة في طليعة الاشكال الاخرى.
تحدث غسان عن المقاومة الادبية في مواجهة الاحتلال وأنها لا تقلُ أهمية عن المقاومة المسلحة، مؤكدا على أهمية الكلمة وقوتِها في مواجهة المحتل خاصة عندما يكون الأدبُ، شعرا او قصة او رواية ترتبطُ بالأرض والشعب، متناولا الفلكلورَ الشعبي المتمثلَ بالشعر والاغاني، وحضورَه في الأعراس والمآتم والمناسبات، عاملا على إبقائه متداولا وحيا.
لم تُحبِطْهُ الهزائمُ والانتكاسات وقوة الكيان بالدعم الامبريالي والتواطؤِ الرجعي العربي وبؤسِ الجماهير العربية، فكتب غسان للمستقبل، للأجيال الطالعة، للزمن القادم فدعا للثورةِ والكفاح والتنظيم، فالثورةُ هي الطريقُ الوحيد لإستعادة الوطن والقتال هو السبيلُ الوحيدُ لتحقيق ذلك، ويقول في تحدي الهزيمة: “الجرحُ اذا انفتحَ في جسدٍ ميت، لا يؤدي الى أي اهتزاز، ولكنه إذا ما انشق في جسد حي زاد قابليتَه للمقاومة، وحرّكَ القوةَ الكامنة في أعماقه، وضاعف من طاقتِه على الرد”.
وفي تقديسِه للبندقية في الموقع والموضع الصح، ومكانتِها في مشروعه الثوري، يقول غسان: “إن كلَ قيمةِ كلماتي كانت في أنها تعويضٌ صفيقٌ وتافهٌ لغياب السلاح”، لذلك نرى البندقيةَ (السلاح) حاضرةٌ في معظم أعماله الادبية، ولأن الطريقَ الى الوطن يبدأ عند غسان من فوهة البندقية فيقول على لسان ام سعد: “البارودةُ مثل الحصبة تُعْدي، وعندنا بالفُلح كانوا يقولون إن الحصبة إذا أصابت الولد فهذا يعني أنه بدأ يعيش وأنه صار مضمونا”، ، لذلك قال في إحدى حواراته: “إن أي حوار مع الكيان المستعمر لا تكون فيه البندقية حاضرةً هو بمنزِلة حوارٍ بين السيف والرقبة”.
ومع الحضور الطاغي للقضية الوطنية في فكر وأدب غسان كنفاني إلا أنه لا يغيبُ عنه البعدُ الطبقيُ للصراع مع العدو الصهيوني، فهو طرحَ القضية الوطنية في بُعدِها الطبقي، لأن الثورةَ يصنعُها و(يجب) يقودُها الفقراء لأنهم أصحابَ المصلحة الحقيقية في التحرير.
لا يتسع المجال للإحاطة بكل أبعاد النِتاج الأدبي والمشروع الثوري لغسان، لكن يمكن ختام هذه المداخلة بالعودة الى تحديد موقع غسان كنفاني في الثورة، إنه المثقفُ الثوري والعضوي والمشتبك، الذي يناضل مع الجماهير ويعمل على رفع وعيِها السياسي لإحداث التغيير الثوري ويواجه الظواهرَ السلبيةَ في المجتمع ويطور الايجابية منها، ويضيف غرامشي على معايير المثقف العضوي ما هو شخصيٌ وذاتي، وكأنه يتحدث عن غسان، إذ يجب يتمتع بالتواضع ويدرك أن ثقافتَه ليست ترفا فكريا ولا امتيازاتٍ ومكاسبَ ولا فوقية على الجماهير كي لا يتحول الى منظر معزول عن النضال والثورة، ويحذرُ من تسلم هذه النماذج لمهام قيادية في الحزب الثوري.
ما احوجَنا الى غسان المثقف الثوري في هذه المرحلة من صراعنا مع الكيان الاستعماري الصهيوني، وما أجوجنا الى المثقفين الثوريين الفلسطينيين والعرب لاستنهاض الطاقات ورفع الوعي والدعوة الى الثورة، وما احوجنا اليهم لجَسْر الهُوة بين الأحزاب والفصائل وبين الجماهير، ما أحوجَنا الى كل ذلك وشعبُنا في فلسطين ومقاومتُه الباسلة، وحركات المقاومة في جبهات القتال في جنوب لبنان واليمن والعراق وسوريا وايران، ومعهم أحرار العالم، يخوضون حرب التحرير الشعبية في قطاع غزة والضفة الغربية المحتلة وباقي الميادين ويحطمون السرديات المؤسِّسة للكيان، التفوق والقوة والأمن والرفاه الاجتماعي، ويفجرون تناقضاتِه البنيويةَ يُوقِعونَه في مأزقه الوجودي، ما أحوجنا … غير أن غسان كنفاني الذي طرق جدران الخزان حاضرٌ في الفكر والادب والمقاومة في غزة والضفة الغربية والقدس وفي فلسطين التاريخية، في المخيمات والشتات، في التضامن الأممي الذي اجتاح شوارع مدن وعواصم العالم، في انتفاضة طلاب الجامعات، ملهما ونموذجا ومحرضا على القتال والثورة.