ثقافة

“الخبز المر”: في ذكرى استشهاد ماجد أبو شرار

العربي الجديد- راسم المدهون

ما زال اسم ماجد أبو شرار لامعًا في سماء الثقافة الفلسطينية رغم مرور أربعة عقود ونيف على استشهاده بانفجار سريره في العاصمة الإيطالية روما خلال مشاركته في مؤتمر عالمي للتضامن مع كفاح الشعب الفلسطيني، وبعد شهور قليلة من صدور مجموعته القصصية الوحيدة “الخبز المر” في بيروت، وهو المكافح العنيد الذي ظلّ رمزًا للمثقف العضوي الذي حمل الفكر جنبًا إلى جنب مع الروح الكفاحية وتميّز بحضوره الحي في الأوساط الشعبية كلها وبالذات بين المثقفين.

ماجد أبو شرار هو عضو اللجنة المركزية في حركة فت والشخصية القيادية البارزة التي لعبت أدوارا قيادية في “الاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين” وفي العمل الكفاحي في الثورة والمقاومة عمومًا، ويعرف الفلسطينيون دوره البارز في تأسيس الاتحاد عام 1972 وفي بناء المؤسسات الثقافية الفلسطينية عمومًا، ومنها بالذات “مؤسسة السينما الفلسطينية” و”الإعلام الفلسطيني الموحّد” وإطلاق مجلة “فلسطين الثورة” التي كانت “الصحيفة المركزية” لمنظمة التحرير الفلسطينية التي ترأس هيئة تحريرها الشهيد كمال ناصر بترشيح من ماجد ودعمه.

في ذاكرة الكتاب والمثقفين الفلسطينيين، يروي الروائي يحيى يخلف أن بدايات ماجد أبو شرار في كتابة القصة القصيرة جاءت في ستينيات القرن الفائت من خلال نشر قصصه في مجلة “الأفق الجديد” التي صدرت لعدد من السنوات وقدّمت نصوصًا لكتاب وشعراء كثر من بينهم محمود شقير ويحيى يخلف وأمين شنار ومحمد البطراوي وعز الدين المناصرة ومحمد القيسي، والتي توقفت عن الصدور عام 1966 أي قبل قليل من حرب الهزيمة العربية الثانية في حزيران/ يونيو 1967.

تلك الهزيمة الكبرى وضعت الشهيد ماجد أبو شرار في قلب الكفاح الوطني فبدأ كفاحه في الصفوف القاعدية لحركة فتح كأحد كوادر الإعلام في وجود الشهيد الآخر كمال عدوان، ليرتقي في مؤسسات الإعلام مواقع عديدة أصبح بعدها المسؤول عن “إعلام حركة فتح” أولَا، ثم مسؤول “الإعلام الفلسطيني الموحد” عند تأسيسه أواخر عام 1972، فصدر العدد الأول من مجلة “فلسطين الثورة” وتأسست وكالة الأنباء الفلسطينية “وفا” كمرجعية إخبارية حصرية لأخبار المنظمة ونشاطاتها السياسية وغير السياسية.

تلك الأيام شهدت انشغال الشهيد ماجد بالكفاح الوطني اليومي وانقطاعه عن كتابة القصة القصيرة والتي عاد لها من خلال جمع قصصه التي كان قد نشرها في الصحف والمجلات وأبرزها “الأفق الجديد” ونشرها في كتاب حمل عنوان “الخبز المر”، وشكّل حضورها في أوساط المثقفين اكتشافًا جميلًا لصوت أدبي لم نكن نعرفه من قبل، خصوصًا وأن تلك القصص كتبت في زمن عرفنا القصة فيه من خلال رائديها الشهيرين سميرة عزام والشهيد غسان كنفاني.
في “الخبز المر” يلحظ قارئ القصص أنها تناولت مناخات وأحداث النكبة الفلسطينية الكبرى عام 1948. نرى هذا في قصة “مكان البطل” المكتوبة عام 1960 والمهداة “إلى روح البطل إبراهيم أبو دية” وفيها لوحة للقتال غير المتكافئ الذي خاضه المدافعون عن القدس في حرب النكبة عام 1948 حيث تفشل البطولات الفردية في ردم هوَة الفوارق بيننا وبين العدو في السلاح والتحضير للمعركة وتصبح الهزيمة أمرًا لا مفر منه، وهي قصة تنتصر لروح الفداء وقيم المقاومة والثبات على المبدأ. في القصة شجن عميق وأسى يعصف بنفوس أبطالها، أولئك الذين ينتمون إلى الفئات الشعبية ويحلمون بمستقبل أجمل لهم ولبلادهم.

الجانب الآخر الذي لا يعرفه كثر من المثقفين هو الدور الذي لعبه الشهيد ماجد في صفوف مقاتلي الثورة الفلسطينية من خلال موقعه كمسؤول للتفويض السياسي، والذي مارسه في صورة متزامنة ومترافقة مع مسؤوليته عن الإعلام، وهو دور بارز في المحطات السياسية الكبرى كلها والذي نبع من إدراكه العميق للعلاقة بين الثورة والوعي الثوري بالفكر الحر والإرادة الحرة.

رؤى الراحل ماجد ابو شرار في قصصه المكتوبة في الستينيات تبدو “راهنة” وإن انتمت إلى زمن آخر تفصلنا عنه عقود طويلة. في قصة “أفاعي الماء” يقدّم الكاتب الراحل لوحة فنية لحكايات القمع برشاقة تجعل السرد القصصي ينساب بدون تكلف أو افتعال حتى لنكاد نعتقد أنها قصة تحكي عن زمننا الراهن، فأفاعي الماء تروي حكاية من حكايات الاغتيال السياسي وأساليب تزييف الواقعة بعد ذلك كي تبدو حادث دهس سيارة لعابر في الطريق. في القصة تكثيف جميل لعناصر اللوحة السردية التي تجمع شخوصًا وأمكنة وزمانًا محدّدًا وترسم مآلات صادمة أساسها حقيقة العنف السياسي وهيمنته على صورة اللوحة في بلاد العرب. هذه القصة المكتوبة عام 1964 تنتمي إلى مرحلة مبكرة لعلاقة الوضع الاجتماعي – السياسي بالشأن الوطني وما يتصل به من أهداف وطنية كبرى كانت تترنح تحت ضربات الظلم والاضطهاد، وبعض قصص هذه المجموعة كتبت في مرحلة شهدت إرهاصات البحث الفلسطيني عن استعادة الفعل والدور ونعني زمن انطلاق الكفاح الفلسطيني الذي كان الشهيد ماجد أحد البارزين فيه والذي دفع حياته ثمنًا لتحقّقه وانتصاره، فظلّ حاضرًا في نفوس وقلوب الأجيال الفلسطينية اللاحقة على نحو مشرق ومضيء.

أهم ما في قصص أبو شرار هو ذلك المزيج الواعي للعلاقة الوشيجة بين العاملين السياسي والاجتماعي، فالكاتب يقدم أبطالا من المجتمع الفلسطيني في مراحل قاسية وفي ظروف سياسية واجتماعية استثنائية تحفر في الوعي وفي الذاكرة على حد سواء، وينجح في تشكيل مشهدياته القصصية دون إقحام لقصديات أيديولوجية سياسية. هي قصص من الواقع الاجتماعي الشعبي للبسطاء والعاديين وهي تحمل همومهم وأحلامهم على نحو يميزها عن قصص تلك المرحلة من سنوات الستينيات ويضعها في مقام مختلف خصوصا وقد نجح الكاتب في تشكيل عوالمه القصصية من وعي المرحلة ووعي الرحلة الصعبة لجيل فلسطيني انتمى لوطنه الذي كان يشهد خطرًا مصيريًا داهمًا، ثم أصبح بعد ذلك متشظيًا وتعصف بأبنائه ريح القهر والهزيمة.

مجموعة “الخبز المر” أيقونة إبداعية تظل حاضرة في الوعي كما في تاريخ الإبداع القصصي، ولعل هذه المقالة تكون مناسبة لي لدعوة اتحاد الأدباء الفلسطينيين ووزارة الثقافة الفلسطينية إلى إعادة طباعتها من جديد، ليس فقط بالنظر لأهمية حضورها، ولكن أيضًا بسبب أخطاء وعثرات شابت طبعتها التي صدرت في بيروت عام 1980، وكانت مرتجلة ومليئة بالمشاكل الفنية وأخطاء الطباعة، ناهيك عن أنها نفدت ولم تعد متوفرة في المكتبات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى