المكتب الإعلامي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في لبنان
برفقة كلمات لجمعية التضامن الاستاذ يوسف خضرا والحركة الثقافية في لبنان د. محمد فقيه واتحاد الكتاب اللبنانيين د. فايز ترحيني، والدكتور علي نسر وتقديم د. نورا مرعي و المحتفى به د. عبد المجيد زراقط.
وحضور ثقافي لافت.
.
غارنيكا اسمها ” يوميات نضال وعز” !
كل الشكر الى الجهات الداعية التي أتاحت لي فرصة اللقاء بكم والتظلل بهذه القامة المحتفى بها.
وأنا لست بناقد لكني منحاز موضوعياً للفكرة والسردية والتفحص ، وأنا أقرأ “يوميات نضال وعز” للدكتور عبد المجيد زراقط راودني سؤال جار مفاده: هل هناك مستقبل لشخصيات القصص والروايات؟ خاصة عندما تكتب عن يوميات مخصصة للفتيان تقص دروساً من مواسم البطولة؟ فتيان يخطون بما يعجز عنه الشعر كأنهم كائناتٌ متخيلة من فضاء آخر.. على دفتر مدرسي في يوميات الموت العادي ..
فكيف إن كان صاحب العمل ليس كاتباً عادياً، بل ابن بار لعطر التّراب الجنوبي المقاوم والعنيد، والذي نسجته حكايةً من خيوط الشّمس، وبتغريبة فلسطين وكفاحها المديد، عرفناه مربياً متربعاً على عرش السرد والنقد والفحص والدرس والفكر والأدب والثقافة، في المعاقل الأكاديمية والحركة الثقافية العربية، وعلى تماس مباشر في بناء الأجيال، لذلك يظل السّؤال حاضراً ومستعاداً عن مستقبل أبطال الحكايات في الرواية والقصة والواقع. أتخيله يجلس وسط مجموعة من الأحفاد، لا يريدهم أن يذهبوا وشأنهم، فعندما يكتب لهم بشغف المربي الذي يقدم ابتكاراً أدبياً لمن سيمثلون المستقبل، ويرثون الذاكرة ذاكرة فلسطين, من محاولات المحو والطمس والنسيان, يوم راهن الصهاينة على النسيان. يموت الكبار وينسى الصغار, فمن أين جاء لهم عز ونضال…؟؟
2- أبطالُ القصص هم أرواحٌ يكتبون مستقبلَهم كما وردَ في حكايات الجد لحفيديه نضال وعز، يستنسخون قصصَ البطولة الزاخرة بالمعاني في وطنٍ محتل، فنعثرُ في كل قصة على روح من بطلٍ آخر في ساحات المقاومة؛ حيث يدركُ الفتية أن مواجهة هذا الوحش المحتل لا يكونُ عن طريق الخنوع ، بل حتماً عن طريق الكرامة .
هكذا يمرُّ السردُ في يوميات الفلسطيني المفعمة برمادِ الحروب، والكاتبُ وضع يده على جرحٍ كبير ما زال أبطاله يتقنون صلاة العشق في فانتازيا ساحرة تجاوزت أبطالَ الحكايات الشّعبية في مخيلة شعبٍ يدفنُ أمواته وينهضُ ليعلمونا سرّ الحياة .
مع هذه القصص الماتعة، نقفُ وكأننا نقرأ تمائمَ الروح في معركة الوعي التي نودُّ أن ننقلَها للأجيال، والتي يتخذُ منها السرّد رحلةً نحو نضال يومي تحت نير احتلال يريدُ اقتلاع المستقبل…
3- وكما علّمنا المربي الموسوعي عبد المجيد زراقط أن السّرد هو نوعٌ من أنواع الاستراتيجيات، في توظيفِ مصادر معينة وفي استخدام تقنياتٍ محددة للوصول إلى الهدف. وهو الذي قال :”عندما يتخلى أدباؤنا عن ذواتهم، تخلّو عن كل ما يخصهم”.
وقال أيضاً:” إني أعيش حياةً محورها المركزي معاناة احتلال وطني، فكيف تكون كتابتي عن هذه الحياة بعيدةً عن هذه المرحلة، أو الحداثة؟ إن هذا فهم مشوّه، ويفتعل فصاماً، إن لم أقل إنه مشبوه يصبُّ في خانة التنكر للذات الوطنية والشّخصية في أخص قضاياها”.
وهكذا نرى في يوميات نضال وعز، حيث لم يبدل الكاتبُ ثوبَ الهوية الأصيل، فتحضُر رموزه من ذاكرة الحكايات التراثية لتروى للأجيال، تماماً كالغول الذي جاء الى البلاد وصنع خراباً فيها فكان كناية عن الاحتلال. والجميلُ أن الناس قضت عليه بمشاعل النار والتي هي أيضاً كناية عن الثورة الحقيقية، لذلك سألت الحفيدةُ نضال جدها: ونحن ألسنا شطاراً يا جدي؟ واستنتجت أن المستوطنين هم غول جديد يشبه غول الحكاية.
أما القصة التي تلي حكاية الغول، فهي تشيرُ إلى جبن العدو، فلم يحملُ الأحفاد مشاعل نار بل فكروا بحيلة لكي يستهزئوا بالعدو فكان صوت علب العصير المداسة على الأرض يخيفُ الجنود، وتكمن روعة هذه القصة في تعريف الأطفال والفتية على معنى آخر للقوّة الذي يرادف عدم الاستسلام والهرب واستخدام السّخرية أحيانا لتفضح قلوب الأعداء.
وفي قصص أخرى، يستمع الجد لأحفاده، فيخبرونه قصص بطولاتهم، وفي ذلك ليس فقط تنويعٌ في أدوات السرد، بل اطلاع الجيل الأكبر على إبداعات الجيل الشاب الذي يضعُ دولابَ النار في مستوطنة، فهو يعرف عدوّه جيداً، كما يعرفُ كيف يفاجئه بمفاجآت يتأكد فيها أنه لم يقتل هذا المستقبل كما يفكّر، وأن هؤلاء الصغار لا ينسون أبداً.
إنه جيلٌ يدركُ أن لغتنا لها صدى فعلي على الأرض، فكلمة مقاومة ليست فقط كلمة، انها مرادفةٌ لمعنى وجودهم في هذا العالم. فهم يحولون الأرض الى معنى والحب إلى قتال ومن المسافة صفر.
4 إنه جيلٌ لا يفكر فقط بمقاومة مجتزأة او فردية بل أن تكون شاملةً ومؤطرةً وموحدةً ومنظمة لهذه العمليات كما أخبر عز نضال، اللذان اختارتهما القيادة أن يعملا فيها. وفي ذلك أيضاً إشارةٌ من الكاتب لأهمية ما يحدث في فلسطين وأن تكون هذه المقاومة التي نحلمُ بها مدروسةً ومنظّمة.
ولا تغيبُ الجراحُ عن أجواء المجموعة، فيحكي الجدّ حكاية َجرحه القديم وكأنّه حكايةُ النكبة كلها. انّه الجرح الذي يشبه جرح حفيده، والذي تركته رصاصاتُ المستوطنين، فقد صادر الإنكليز بنادقَ الفلسطينيين القديمة وتركوا للمستوطنين أسلحتهم الحديثة. هذا هو الجرحُ الذي بقي حتى الآن، ولكن وعدَ المستقبل والجيل الجديد أن يزول.
تسودُ أجواء التفاؤل والثقة بالنصر على المجموعة، كأنما الكاتبُ يزرعُ تلك النبتة في أرواح الأجيال لتثق بروح المقاومة والنّضال كما يقول محمود درويش: نعمل كما يعمل العاطلونَ عن العمل، نربي الأمل. لذلك نرى أنه لا ينقلُ فقط أجواء الانتفاضة الشعبية في الداخل، ولا يخبر أحفادَه دروسَ المقاومة فحسب. بل هو يذهبُ عميقاً نحو التقاط المعنى الجميل لوجود قضيةٍ كبيرةٍ كفلسطين في الوجود، قضيةٍ متجذرة في الروح، تتسعُ في كل أبعادها الإنسانية والسياسية والأخلاقية والروحية، انها مثل قصة لأحفادٍ يحملونَ مشاعل النار التي حملها جيلٌ آخر، لكنهم يبدعون في إضافة أسرارِ أحلامهم الخاصة مدركين زمنهم الخاص الذي لا يمكنه بتاتاً أن ينسى حكاية الجد الأصيلة ليروي هو أيضاً حكايته.
5-فهكذا أصر الدكتور عبد المجيد ذات مؤتمر كاشفاً حالة العداء للأدبِ المقاوم تحت ذرائعَ عدة بقوله :” نحن لا نفهم الأدبَ المقاوم صراخاً وحماسة وخطابة جوفاء، وانما الأدبُ المقاوم، تكمن قيمته الحقيقية أنه أدبٌ صادقٌ وحقيقي”. فقد فنّد الكاتبُ إشكاليةَ ثقافة الهزيمة التي تنطلقُ من الدعوة التطبيعية الى ما سماه “أدب التخلي” هو تخلي ذاك الكاتب عن الجلد وتغييره، وأدب التخلي بمال قارون وحلي الجوائز التي تفوح منها رائحةُ الصمت.
لكن يوميات نضال وعز تجري في عروقِ مشهدٍ فلسطيني لا يكتمل دون مبدعين شكلوا الوجدان والعزيمة التي تجري من دمٍ إلى دم ومن خندق إلى خندق، ومن نفقٍ إلى نفق، ومن عرينٍ إلى عرين.
إنه تناحرُ روايتين، رواية ٌأصيلةُ في مواجهة روايةٍ ملفّقةٍ كاذبة وهو صراعٌ على المستقبل والتاريخ والجغرافيا والحاضر الذي يبدأُ من حبة الرمل في الأرض إلى أول أحرف الأبجدية في سبيل حفظِ الوعي والحقيقة الفلسطينية .
نضال وعز ، توأمُ البطولة التي تتوالدُ ولا تنقطع، يوم تعطلت في غزة نواميسَ الحياة ،في السلم يدفن الأبناء آباؤهم، في الحرب يدفن الآباء ابنائهم دون نظرة وداع ، في زمن الإبادة تمسح أسرٌ بأكملها من السّجل المدني, فتدفن البيوت ساكنيها, والمدارس تلاميذها والمستشفيات مرضاها.
في زمن الإبادة النموذجية ، مهما بلغت الفظاعة، كما وصفها “جان جينيه” في يومياته عن المجزرة الجماعية أنها “النظرة اللامرئية “، ليس هروباً من الحقيقة ، إنّما خوفاً من هذا القاع المُقزز والثقيل من القُبح الإنساني، لأنها صورة الحقيقة العارية في وجه الحقيقة المقّنعة. محو أجنة ِالذاكرة العصية على النسيان, ذاكرةٌ توالد بجيل كتيبة نضال وعز.
6 توقفتُ ملياً عند ما ذكرته جريدة نيويورك تايمز عن قصة أبو طه من غزة , تدمر بيتَه وتشتت عائلتَه بين جراح وموت وتهجير, يقول : اذا أرسل لي شخصٌ صورة ابني الفتى الشهيد. فإنني أصرخ عليه وأقولُ من فضلك لا تذكرني بابني , لقد مات بالفعل, لا اريد استعادةَ الذكريات , يا جماعة النسيان نعمة من ألله. تطوع للعمل في المستشفى ومع النازحين يذهبُ للبحر يفركُ جسمه بالرمال ويستحم, يريد أن يشغل نفسه بأي شيء مع جموع النازحين في خيام بمنطقة المواصي, وبالتالي كلما رأى فتى صغير تهاجمُه الذكريات وتستمر بالعودة إليه, يصف حاله بالقول:”لا أستطيعُ أن أنسى”.
نضال وعز هما رمزان لكل أطفال غزة، مثل “غارنيكا ” ملحمة الجديدة على جدار العالم تشعُّ بنور الحقيقة إلى ضمير البشرية ويبتسمون في كرنفال الموت، يوسف وعبود وأحمد وليلى، يتحدثون عن اكفانهم برومنتيكية أشبه بكلمات لوركا الهاربة وعن جوعهم البريء بين اشداقِ الفاشيست, فهناك فرق بين الذين يكتبون أسماءهم على الصواريخ ومن يكتبونها على أكفانهم.
ذاكرة سوداء ممتدة من ناكازاكي وهيروشيما الى ماي لاي في فيتنام الى بحر البقر ودير ياسين وكفر قاسم والطنطورة والدوايمة وحولا و قانا وصبرا شاتيلا و يبقى السؤال : كيف يمكن لجنسٍ بشري أن يفعلَ شيئاً كهذا؟.
لا أعرف إن كان نضال وعز مازالا على قيد الحياة, أو إن كانا في نفقِ ما أعرفه أنهما يشتعلان كقنديل ورد وقمر، وان من ودعته امه سينبتُ العوسج في عينيه. ولكن ما عرفه … أن جيل (نضال وعز) لن يغفرَ ولن ينسى وسينتصر .