رفح المكتظة… سجن مفتوح يشبه يوم الحشر
العربي الجديد- أمجد ياغي
تحولت مدينة رفح خلال الشهرين الأخيرين إلى الملجأ الوحيد والأخير لعشرات آلاف الغزيين النازحين من مختلف مناطق القطاع التي طاولها التدمير والاجتياح البري والاعتقالات والقتل.
يعيش عشرات آلاف الغزيين في مدينة رفح حياة الاكتظاظ بكل تفاصيلها اليومية مع استمرار العدوان الإسرائيلي، فبعدما اعتادوا على الوقوف في طوابير ينتظرون فيها طويلاً من أجل الحصول على أساسيات الحياة من غذاء ومياه، يقبعون اليوم في حالة انتظار لما ستؤول إليه التهديدات الإسرائيلية بالاجتياح، ومصير التدخلات العربية والدولية التي تسعى فقط إلى منع وقوع مذبحة أكبر من كل المذابح التي شهدها القطاع طوال أشهر العدوان الماضية.
ويعيش نحو مليون ونصف المليون فلسطيني، نصفهم تقريباً من الأطفال، في المدينة الصغيرة، وسط ضغوط نفسية حادة في ظل الترقب القائم لما سيحصل معهم، إذ لا تتوقف التهديدات من جانب قادة الاحتلال بتنفيذ عملية عسكرية واسعة على رفح، وتتضاءل الآمال بأن تؤدي التدخلات الإقليمية أو الدولية إلى إيقاف الاجتياح البري، أو تعطيل تنفيذ مخطط الهجوم الموسع، إضافة إلى انتشار هواجس التهجير، سواء إلى مناطق الشمال المدمرة، أو إلى شبه جزيرة سيناء المصرية.
وحسب بيانات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا”، فإن التقديرات الأولية ومتابعة الحالات المرضية والنفسية في نقاط تواجد النازحين، سواء في مراكز الإيواء أو الخيام، تشير إلى أن نحو 500 ألف نازح مصابون بصدمات نفسية، وتظهر الأعراض عليهم، وهي نتيجة لتراكم الأزمات خلال رحلات النزوح المتكررة، والعدوان المستمر، والاكتظاظ الكبير الذي يعيشونه، وجميع هؤلاء لا يحصلون على أي نوع من العلاج النفسي.
نزح محمد الشنطي (43 سنة) من مدينة غزة إلى مدينة رفح، ويؤكد أن حياة النزوح والاكتظاظ تجبرهم على أشياء لم يكن يتصور يوماً أن يعيشها، من بينها الانتظار الطويل في طوابير للحصول على الأساسيات، وأحيانا يمتد الوقوف من الصباح إلى المساء، كما بات من الطبيعي أن يقف النازح إلى رفح في عدة طوابير يومياً، من بينها طابور الخبز، وطابور المياه، وطابور الحمام، وحتى طابور المشي في شارع السوق، وطابور الشراء من محال الخضار أو البقالة، وكذا طابور ركوب المواصلات.
يقول الشنطي لـ”العربي الجديد”: “وصل بنا سوء الحال إلى أنني أصبحت أشعر بسعادة غامرة حين أرى طابور الطعام أو طابور المياه يضم 30 أو 40 فرداً فقط، ما يعني أنني سوف أنتظر لمدة لا تتجاوز نصف الساعة، بينما في العادة تضم الطوابير مئات الأشخاص، وعادة ما أقضي 6 ساعات أو أكثر يومياً للحصول على المتطلبات الأساسية، وكل هذا يفاقم الضغوط النفسية التي أعاني منها. أصبحت أشعر أن عمري تضاعف فجأة، إذ لم أتعرض في حياتي لما نتعرض له الآن من أزمات، فقد أصبحنا نعيش داخل سجن رفح المفتوح بعد أن كنا نعيش في سجن قطاع غزة المفتوح، ونكافح في صراع يومي من أجل البقاء أحياء، وننتظر الفرج بينما نحن تحت القصف والحصار، والأخبار الواردة تجعلنا أكثر توتراً، فليس فيها ولو بريق من الأمل”.
يعيش الشنطي داخل خيمة نزوح، وهو يترقب بدء العملية العسكرية الإسرائيلية في رفح، ويعتقد أنها اقتربت، وينتظرها بخوف، وتتسارع ضربات قلبه كلما سمع صوت القصف. يضيف: “على مدار الأيام الأخيرة، كلما أسمع صوت قصف إسرائيلي جديد أظن أنه بداية الاجتياح، فأنطق الشهادة. لا أريد أن أموت من القلق، والموت تحت القصف أهون بالنسبة لي من الموت بسبب توقف قلبي كما حدث مع بعض من أعرفهم”.
وانتشرت العديد من مقاطع الفيديو على مواقع التواصل الاجتماعي التي تظهر الاكتظاظ الشديد في الشارع الرئيسي بمدينة رفح، والذي أصبح شريان حياة السكان والنازحين، ومصدر رزق الباعة المتجولين، وبات هناك طابور انتظار للمرور في الشارع الذي يعرف اكتظاظاً لم تشهده أي من شوارع قطاع غزة سابقاً، حتى في احتفالات عيد الفطر أو عيد الأضحى، ولا حتى في التظاهرات الوطنية أو الشعبية، إضافة إلى اكتظاظ أقل في شارع البحر في الجانب الغربي من المدينة، والذي يقصده الناس للجلوس قبالة الشاطئ.
وبسبب الزحام واقتصار البيع على منطقة واحدة يؤمّها قرابة مليون ونصف المليون نسمة، يظهر التسابق على شراء حاجيات الطعام اليومي، واللحاق بما يتوفر من البضائع المعروضة قبل أن تنفد من الأسواق، حتى أن كثيرين يصفّون في طوابير أمام المحال، وعادة ما يحجزون دوراً امامها قبل شروق الشمس.
يمشي هيثم العرعير (36 سنة) يومياً من مدرسة بنات رفح الإعدادية التابعة لوكالة “أونروا” إلى منطقة البلد في رفح، وتستغرق المسافة نحو ساعة ونصف ذهاباً ومثلها في العودة، إذ لا تتوفر أية وسيلة نقل، وهو يكرر الرحلة اليومية لشراء متطلبات الطعام اليومي، فالكميات القليلة من المساعدات التي تمنحها الوكالة الأممية للنازحين في المدارس التابعة لها لا تكفي لسد رمق أفراد عائلته.
يقول العرعير إنه يعيش ضغوطاً نفسية متزايدة، فهو مطالب بالذهاب إلى السوق يومياً لشراء أي طعام متوفر، رغم أن الوصول المبكر للاصطفاف في الدور يجعله يعاني من قلق دائم، فإذا تأخر قليلاً في الوصول، فقد يعود من دون طعام، وعندها يضطر إلى شراء أي شيء بديل، خصوصاً من الراغبين في بيع المساعدات.
يضيف لـ”العربي الجديد”: “في بداية العدوان، كنت أبكي بشكل متكرر بسبب فقدان الأقارب والأصحاب، لكني اليوم أعايش ضغوطاً نفسية متفاقمة، ولم أعد أستطيع البكاء، فأنا مطالب يومياً بتأمين أساسيات الحياة، خصوصاً الانتظار في طوابير الغذاء والمياه، وطوابير شحن البطاريات. نعيش في ساحة الحشر داخل رفح، ونمشي بين وحول الأمطار ومياه الصرف الصحي، ولا نملك رفاهية التوقف عن السير، رغم أننا يمكن أن نموت قصفاً في أي لحظة”.
يتابع: “كنا قبل العدوان نسأل ماذا سنأكل اليوم، ونحتار في الاختيار، والآن أصبحنا نبحث عن أي طعام متوفر كي نبقى أحياء. أنتظر يومياً عدة ساعات لقضاء حاجتي في الحمام، ما يدفعني إلى البقاء مستيقظاً حتى ينام معظم الناس في المدرسة، فأذهب إلى الحمام لأقضي حاجتي وأستحم مستخدماً زجاجة ماء. نعيش في سجن خانق، ونحن مضطرون إلى الانتظار، وتكرار محاولات الحصول على ما يبقينا على قيد الحياة”.
وتشارك النساء الرجال في الانتظار بالطوابير من أجل الحصول على المساعدات، أو شراء المستلزمات، وفي السابق كان يتم تخصيص طابور منفصل للنساء، لكن خلال الأيام الأخيرة، ومع تزايد حدة الاكتظاظ، أصبحت الأعداد في طابور النساء تماثل الأعداد في طابور الرجال.
تقوم أمل عوض (43 سنة) بمشاركة زوجها وأبنائها في مهمة شراء الأغراض من السوق بشكلٍ يومي، وهي تقضي ساعات طويلة في الطوابير قبل أن تعود ببعض الخبز والمياه إلى أحد الحواصل الفارغة التي تضم نحو 50 فرداً من عائلتها، من بينهم ثمانية مسنين.
تقول عوض لـ”العربي الجديد”: لم نعد نبالي بشيء، فالقلق بات جزءاً أساسياً من حياتنا اليومية. أمشي إلى السوق يومياً لتأمين احتياجاتنا، وفي كل مساء أتذكر منزلي المدمر، وأشقائي الشهداء. نحن مجبرون على تحمّل الضغوط، فلدي طفلان، أحمد (9 سنوات) وعلا (8 سنوات) وهما يقولان لي إنهما يشتاقان إلى التنفس بحرية وراحة، لكننا لا نملك هذه الرفاهية حالياً، ويمضي يومنا من الصباح إلى المساء في تعب وقلق، ونخشى أن تبدأ العملية العسكرية، وأفقد أبنائي، ثم ننشغل مجدداً بالحصول على المياه والخبز”.
تضيف: “الاكتظاظ وقلة المعروض يؤديان إلى مشاكل يومية خلال مهمة الحصول على الغذاء، فالجميع يريدون الطعام، وقبل أيام، سقطت مغشياً عليّ من شدة الزحام، ونعاني من إرهاق كبير بسبب المشي الطويل، وعندما استفقت تابعت السير. أمشي يومياً ما لا يقل عن 4 ساعات، وفي الأيام الأخيرة أصبحنا نحصل على كميات أقل من الطعام بسبب تقلص حجم المساعدات”.
ويقول المستشار الإعلامي لوكالة “أونروا”، عدنان أبو حسنة، إن “التكدس في رفح يتسبب في كارثة إنسانية في ظل قلة المساعدات، وعدم انتظام وصولها، فضلاً عن عوائق التوزيع، وكذلك الضغوط الإسرائيلية والدولية على الوكالة، والمزاعم الرائجة ضد موظفينا بهدف قطع التمويل”.