بوابة الهدف-* انتصار الدّنّان
ليسوا أصحاب بيوت وأراض فقط، بل هم حراس الحرية التي نتطلع إليها، الحرية في تحرير أرضنا من اغتصاب طال عمره وزاد ستة وسبعين عامًا، وهم العنفوان الأبي الذي لا ينكسر. من جنوب لبنان كانت الطلقات والصواريخ المساندة ل غزة تزغرد وتشعل نيرانها فوق سماء تل أبيب والمستعمرات الإسرائيلية، لكن هذه المساندة كانت تكلفتها عالية، فقد استهدف العدو الصهيوني جنوب لبنان، وبيروت، والضاحية وعكار والهرمل وبعلبك بنيران أسلحته القاتلة، وهو لم يستثنِ منطقة أو بلدة لبنانية كان فيها المقاومون، ما أدى إلى نزوح حوالي مليون شخص إلى أمكنة أكثر أمنًا في لبنان، ومنه من توجه نحو سورية فالعراق.
مع بدء سريان وقف إطلاق النار في لبنان في السابع والعشرين من نوفمبر بدأ النازحون الجنوبيون بلملمة أغراضهم والتهيؤ للعودة إلى بلداتهم وقراهم التي نزحوا عنها.
ساعات طويلة قضوها في زحمة السير بانتظار أن يصلوا إلى بيوتهم ليطمئنوا عليها، وحتى يفروا من أماكن الإيواء التي لجؤوا إليها أثناء الحرب. في أثناء عودتهم كانوا يرفعون شارات النصر بفرحة العودة إلى بيوتهم برغم حجم الدمار الهائل والخراب الحاصل في مناطقهم. قوافل العائدين غصت بها الشوارع، وانطلقت مواكب السيارات تجوب القرى اللبنانية وضاحية بيروت الجنوبية، احتفالًا بالعودة.
تقول سارة خليفة من بلدة الغازية: “لم ننم ليلة الإعلان عن الهدنة، وما إن شق الضوء نوره حتى وضعنا أغراضنا التي كنا قد وضبناها ليلاً في السيارة، وتوجهنا إلى بلدتنا، من بيروت إلى الغازية ساعات طويلة قضيناها في الطريق، أكثر من ست ساعات في الوقت الذي تحتاج الطريق فعلياً أقل من ساعة، لكن وبرغم ذلك كنا نشعر بسعادة العودة إلى بيوتنا، فقد شعرنا بالذل والمهانة والحاجة“.
تتابع، وما إن وصلنا إلى بلدتنا حتى كان كل شيء فيها ساكتاً، توجهنا إلى بيتنا فوجدنا المبنى كله قد سوي بالأرض ما عدا غرفة تطل على الحديقة كنا نضع فيها المؤونة، وقفنا كلنا أمام المبنى حائرين وصرنا نبكي، لقد تبدل فرحنا بالعودة إلى حزن، ماذا سنفعل وإلى أين سنذهب؟ وهل علينا تكرار التجربة مرة ثانية؟
صاحت بنا أمي، وقالت:” يجب أن نبدأ بإزالة الركام ولننظف هذه الغرفة الصغيرة وننام فيها، ليس لدينا خيار آخر، ولا يجب علينا العودة إلى ما كنا عليه، وبالفعل بدأنا بإزالة الركام، ونظفنا الغرفة وبتنا فيها، وفي اليوم التالي نظفنا الحديقة وسورناها بشادر، ونحن ننتظر لنبدأ بترميم منزلنا، وإعادته كما كان سابقًا.
أبو أحمد من بلدة معركة، ذلك الرجل السبعيني لم تكن الفرحة تسعه برغم استشهاد عدد كبير من أقاربه في العدوان الإسرائيلي: “منذ أن تأكدت من عودتي إلى بيتي، شعرت بفرحة لم أشعر بها من قبل سواء كانت بيوتنا موجودة أو تحولت إلى رماد، فقد كان تفكيري فقط هو العودة إلى بيتي وإلى أرضي التي كنت على الدوام أحرص على رعايتها وزراعتها والاهتمام بها. لا يمكن أن أصف ما الذي شعرت به عندما علمت بوقف إطلاق النار، والفرحة كانت أكبر عندما وصلت إلى بيتي بعد طول انتظار. لقد تضرر بيتي بشكل جزئي، فقد وجدت بعض الغرف التي يصلح فيها السكن، بدأنا ننظف البيت عند وصولنا، لكن ما عكر صفو فرحنا فقدنا للكثير من الأحبة الذين غادرونا باكرًا، فعدد كبير من جيراننا وأقاربنا فارقوا الحياة.
مشهد الدمار في جنوب لبنان كبير جداً، لكن أهالي الجنوب أصروا على العودة إلى بيوتهم وإلى أرضهم حتى لا يتركوها لقمة سائغة في فم العدو، عادوا برغم وجعهم وجرحهم إلى الأرض التي تركها أجدادهم لهم أمانة، فقرروا عدم هجرتها، حتى الذين نزحوا إلى العراق كانت وجوههم مختلفة عندما أطلقت الطائرة العنان لأجنحتها متوجهة إلى لبنان، ليعانقوا حبات ترابه، فما أحن على المرء تراب الوطن!
علي الأستاذ الجامعي وزوجته العائدان من العراق إلى النبطية لم تكن الفرحة تسعهم، فكان ذلك أشبه بحلم، كانا على يقين بأن الوطن هو الحضن الدافئ، لم يكونا يعلمان شيئًا عن بيتهما، لكنهما برغم ذلك قررا العودة من دون تفكير بأي شيء، المهم أن يعودا إلى بيتهما ويلتقيا على ترابه إن كان قد سوي بالأرض أو إن كان قد أصيب بشظايا أسلحة العدو الغاشم.
نزلت الطائرة على مدرج مطار بيروت، حملوا حقائبهم وكانت أرجلهم تتسارع في الخروج من صالة أخذ الحقائب، انتظرا كثيراً، شعرا بأن الوقت توقف ولم تعد عقارب الساعة تكتكاتها متوافقة مع دقات قلبيهما، حملا حقائبهما ولم ينظرا خلفهما، ولم يودعاني