ثقافة

“الرّعب”: رواية الموت الّذي لم ينتهِ بعد

انتصار الدنان

عندما كنّا صغارًا قرأنا رواياتٍ وقصصًا للحرب، وكنّا نبحث عن مدى مصداقيّة هذه الرّوايات، ونسأل: “هل من الممكن أن يحدث هذا؟ أو هل من الممكن أن تكون أحداث الرّوايات الّتي نقرأها صادقة؟”.

اليوم، بعد أن صرنا نعايش الحروب الّتي تمرّ على المنطقة حتى لو لم نعايشها بالشّكل المباشر، بل عبر شاشات التّلفزة، ووسائل التّواصل الاجتماعيّ، صرنا نقرّ بصحّة هذه الأحداث الّتي ترويها الرّوايات عبر كتابها الّذين يعايشون هذه الأحداث، بالخلط بين الحقيقة واستحضار الخيال ربطًا بالواقع المعاش، وهي تقع ضمن حفظ السّرديّة التّاريخيّة للشّعوب.

أبطال رواية “الرّعب” للكاتب أيمن العتوم التي فازت بجائزة فلسطين للآداب العالمية، في دورتها الثانية، التي أقيمت في العاصمة العراقية بغداد، عن قسم الرواية في الجائزة الثانية المشتركة بين الكاتب أيمن العتوم، والكاتب أحمد أبو سليم عن روايته “أزواد”، ليس عندهم ما يخسرونه، فقد خسروا كلّ شيء، وهذا ما أتى على لسان فرج أبو العوف الذي ولد في حي الرّمال بغزة ولم يتبق في رصيده غير أحزانه بعد أن صار مقطوعًا من شجرة، فقد حصد الكيان المحتل عام 2019 روح زوجته وأخوته وأبناء أخته ووالديه، وحصد ثلاثين شخصًا من أفراد عائلته بصواريخ لم يعرف عددها نزلت على بناية أبي عوف؛ حوالي ثلاثين صاروخًا كانت كفيلة بأن تنهي حياته وأحلامه حتى لو ظل على قيد الحياة. ترك عمله وعاش وحيدًا مع قطته “جودي” وانعزل عن النّاس ولم يعد يخرج من غرفته إلا يومًا واحدًا من أيام كل شهر، يوم 25، يتمشى عند شاطئ غزة، يشم رائحته ويعود، لكنَّ أمرًا ما أخرجه من غرفته تلك، وجعله يكون بين الناس، فمهنته مهنة التمريض مهنة مقدسة في زمن انعدمت فيه الإنسانية.

يروي أبو عوف مشاهداته ليوميات الحرب، وحكايات النّضّال، النّضال الّذي لم يتوقّف يومًا في وجه ذلك المحتل منذ الاستعمار البريطاني لفلسطين، يتحدث عن عمليّة طوفان الأقصى الّتي أعلن عنها محمد الضّيف، ذلك الرّجل الّذي لا يعرفه أحد، ذلك الرّجل الّذي لا يشبهه أحد، الغريب بكلّ تفاصيله، ومن هنا تبدأ رواية الرّعب الّذي انزرع في كلّ مكان في غزّة، ذلك الرّعب الّذي حصد الشّجر والبشر والمستشفيات، والجامعات والمعاهد والمدارس، ودور العبادة، والأبنية الّتي كانت تؤوي ساكنيها. يروي أبو عوف كل تفاصيل الحياة في الحرب، وتغيّر المدن، والخوف، ما يجعل كل تفصيل في هذه الرّواية رواية خاصة من نوع آخر، كلّ رواية تحكي وجعًا، تحكي السّرديّة الفلسطينيّة الّتي لم تتوقف منذ عام 1948.

الكاتب أيمن العتوم، من خلال أبطاله المتغيّرين، يوثق لنا رواية الحرب في غزّة، الّتي بدأت منذ السّابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، حيث يتناول كل مناحي الحياة الّتي يعيشها الغزّيون، لكنّه لم يغفل الحكي عن دور النّساء الغزّيّات اللّاتي يعشن ويلات الحرب، وبرغم ذلك، فهنّ يحاولن التّكيّف مع الواقع الجديد الّذي فُرض عليهنّ، ومن هنا تظهر بطلة الرّواية الصّحافيّة “سلام” الّتي تشبه نساء غزّة بكلّ شيء، فهي تعجن وتخبز.

وهنا لم يغفل العتوم دور المرأة الغزّيّة، فالنساء الغزّيات بنين فرنًا لصنع الخبز بعد أن قصف العدو الأفران الموجودة في غزة، ويعتبر أنّ هذا العمل بطوليّ، فالرّغيف كالدّواء، يعيد الحياة للمصابين، فحرب الجوع كما يقول موتٌ، فالصّحافيّة الّتي يتمركز دورها حول نقل الفظائع إلى العالم عجنت، ورقّت، وأوقدتِ النّار، والنّار سرُّ الحكاية، وسرّ الحبّ، وسرّ الهمسات الدّافئة، وخبزت، فالخبز سرُّ العيش، وسرُّ الحياة البسيطة، فالجوع قاتل.

يقول البطل:”لمن نشكو؟!”، إنها حالة الاستنكار والتّعجّب، فلا أحد يسمع استغاثة أهل غزة، فقد تُركوا لموتهم، كأنهم ليسوا بشرًا، وليسوا عربًا ولا مسلمين. تُركوا وحدهم يذبح فيهم الجيش الهمجيّ بأبشع ما يُمكن، وأجسادهم الغضّة تتلقّى آلاف الصّواريخ بآلاف الأطنان. وهنا كان الكاتب يركّز على سقوط كلّ القيم الإنسانيّة أمام ما يحصل في غزة، على الرّغم من فداحة الآلام الّتي يعانيها الغزّيّون بصمت، الآلام الّتي كانت الصّحافيّة “سلام” تنقلها إلى العالم، الرّعب الّذي تُكتب كلماته بحروب من دم أطفال ونساء ورجال وكهول غزّة.

الرّواية تشدّ القارئ بأسلوبها السّلس، وتسلّط الضّوء على صاحب الأرض الحقيقيّ الّذي يتشبث بأرضه برغم فداحة العدوان وآلة القتل الهمجيّة والتّرسانة العسكريّة ومحاولة العدو إبعاده عن أرضه. كما تأخذك في رحلة تشعرك بأنك داخل الأحداث ليس منفصلًا عنها، لكنّها رحلة مؤثّرة إذ إنّ أحداثها تسلّط الضّوء على وجع الغزّيّين الّذي لم ينتهِ بعد، وفي رحلة تصغر فيها أمام عزم وإرادة أهل الأرض من صغيرها إلى شيخها.

وفي نهاية الأمر، الكاتب لم يترك أدنى شكّ أمام أي إنسان يتحلى بالإنسانيّة بأنّ الحرب الدّائرة في غزة هي حرب إبادة جماعيّة في محاولة للعدو ومن يسانده لاقتلاع أهل الأرض الحقيقيين منها، وبرغم كلّ ذلك، الكاتب لا يُعدم الأمل في إشراقة فجرٍ مشرقٍ تولد فيه غزّة من جديد، وذلك من خلال ولادة طفل وأمل جديد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى