أبرزثقافة

جدران…

العربي الجديد- انتصار الدّنّان

لا أعلم إلى أين سيقودني حبر قلمي، ربّما أكتب لاحقًا عن قصص لم أعشها بجسدي، لكنّي كنت أعيشها عبر روحي، وتصلني من خلال تلك الشّاشة العملاقة في غرفة جلوسي، سأكتب رواية عن كلّ تلك المشاهد الّتي مرّت وما زالت أمام ناظريْ، وطبعتها في ذهني، كمن يطبع صورة على بلوزة سوداء، أو بيضاء، أو على كوب شاي، أو على دفتر. تلك هي الصّور الّتي ربّما سيتفاخر بها هذا العالم “المتحضّر”، لتصير رواياتهم تُحكى في ساعات درس التّاريخ، ويقولون: “حصلت مجزرة، في المكان الفلانيّ، حصدت أربعين أو خمسين أو سبعين شهيدًا أو ربّما أكثر، بالتّاريخ الفلاني”، أو يقولون “قُصف المسجد الفلاني، أو الكنيسة الفلانيّة، أو المستشفى و و و”، كثيرًا ما سيعرّجون على ذكر أسماء العوائل الّتي محاها العدو بكامل إرادته وعن سابق إصرار وترصّد. سيقول أولادنا حينها، أصحيح ما حصل؟ أين كانت كلّ تلك الإنسانيّة، والضّمير، والأخلاق، والمبادئ، والقيم، أين كان كلّ ذلك؟

ونحن، سنقول خلاف ما سيقولونه: هكذا حصل قبل سنوات عديدة من تاريخ الإنسانيّة، أهكذا كانت مجزرة دير ياسين؟ ومجزرة الطّنطورة، والكثير غيرها؟ ألهذه الأسباب ترك أهلنا فلسطين وهاجروا؟ نضحك من غبائنا، ونقول: “لقد صدّقنا أصدقاءنا الّذين يتكلمون لغتنا، بأنّ أجدادنا باعوا أرضهم، أيعقل!؟”

مرّات أحاول أن أستوعب ما أرى على شاشة التّلفاز، وما أقرأ مما ينشر هنا وهناك، وأخرى أزيح ناظريْ عمّا أراه، في محاولة لإغلاق عقلي، وأحاول ألّا أسمع ذلك الصّراخ والأنين الّذي يقطّع أوردتي، وأشعر بعجزٍ يجعلني أكره نفسي.

في مرّات أشعر بأنّ جدران بيتي ترتجف من هول المجازر، عندما تشاركني مشاهداتي اليوميّة المتكرّرة للمجازر الّتي تحصل أمام مرأى العالم الصّامت الأخرس، أتخيّلها تحادثني في محاولة لمؤازرة جدران بيوت، وكنائس، ومساجد، ومستشفيات غزة، فأروح أتساءل، أيعقل أنّ الجدران تتناجى في ما بينها؟ وهل هناك من رابطٍ بين هذه الجدران وتلك البعيدة عن بيتي، حتّى أنّه لا يربطها حدود، فأقول: “ربّما هو الدّم المشترك، الجنسيّة، الهُويّة، اللّون، العينان، اللّغة. كلّ تلك الأحاسيس المرتبطة ببعضها البعض أخالها تسمّى الإنسانيّة المحضة ولا شيء سواها”.

فيراودني سؤال لطالما يؤرقني، حول معنى الإنسانيّة، فالإنسانيّة في معجم اللّغة هي اسم مؤنّث منسوب إلى الإنسان، ربّما لأنّني أنتمي إلى النّوع الأنثويّ فتحسّ جدران بيتي بجدران غزّة، وكلمة إنسانيّة هي مصدر صناعيٌّ من إنسان، ما يعني مجموع خصائص الجنس البشريّ الّتي تميّزه عن غيره من الأنواع القريبة ضدّ الحيوانيّة أو الحيوانيّة، فيحضرني السّؤال مرّة أخرى، فأقول: “ما علاقة الجدران بهذا النّوع؟ فأصحو من تعقيدات تفكيري، لأصل إلى نتيجةٍ بأنّ الجدران الّتي تحيط بي، والّتي أحتمي بها تدرك فعلًا ما تعيشه جدران غزّة، وكثر من البهائم على صورة إنسانٍ لا يدركون ذلك”.

رغم أنّ للإنسان مع الجدران قصّة طويلة، وكيف لا؟ فأشلاء القرى الّتي مزّقتها الحرب تتطاير جدرانها، وصباحات غزّة المنكوبة تشرق من الجدران الّتي باتت مفتوحة على العالم، وأسماء الشّهداء تنبت في العتمة من تحت الجدران المتهالكة، وترسم عليها طيور التُمير أحلامًا.

تجاوز الثمانين بعام أو أكثر. ولد في مدينة الرّملة قبل الاحتلال بأعوام قليلة، كان صغيرًا، لكنّه لم يكن طفلًا إلى الحدّ الّذي لا يجعله يتذكّر كلّ التّفاصيل الّتي حصلت إبّان الاحتلال الصّهيونيّ لوطنه، فقد شهد المجازر، والقتل والدّمار، واشتمّ رائحة الدّم والبارود. فيوم هجمت عصابات “الهاغاناه” على مدينته كان يلعب أمام بيته لعبة “الشّكّة”، وهي لعبة معروفة بأن يقوم أحد اللّاعبين بشكّ السّكين في الأرض، وكان عصبيًّا لدرجة أنّه يجعل السّكين تغرز بقوّة في الأرض. هجموا على الدّار، افترسوا والده بطلقة صوّبوها نحو صدره، ثمّ صوّبوا نحو ركبته اليمنى ليقع على الأرض مهزومًا أمام آلة الحرب الجديدة الّتي لا تستطيع سكّينه اختراقها، لكنّه، وبسرعة البرق، سحب سكّينه من الأرض، ورماها في اتّجاه من صوب طلقاته نحو والده، فأصابته إصابة طفيفة أدّت إلى أن يطلق النّار بشكل مباشر على قدميه اللّتين أصيبتا بإعاقة لاحقًا، فهجمت أمّه نحوه كاللّبوة، وحملته، وركضت به بعيدًا عن البيت، فهو ابنها الوحيد. ظلّت تركض بقوّة الأمومة إلى مكان ظنّته آمنًا. نسيت زوجها الملقى في الأرض، وبيتها المفتوحة أبوابه، وكلّ ما فيه من ذكريات.

ممرّضته في مقتبل العمر، استقبلتهما في بيته، ضمّدت جراحه، لكنّ الرّصاصة الّتي اخترقت قدمه اليمنى ظلّت عالقة فيها، حتّى لا ينسى حقده عليهم.

نحو غزّة توجّه مع أمّه، وها هو في الثّمانين من عمره ورجله على حالها، لكن عزمه أقوى من كلّ الجبابرة أقلّه أنّه ما زال على قيد الحياة مع كلّ هذا الوجع والحرب.

قُصف بيته، واستُشهدت زوجته الّتي تسنده في سيره، وابنه الأكبر المهندس الزّراعيّ الّذي كان يهتمّ بالأرض، وابنته معلّمة الجغرافيا، ولم يتبقَّ له من ذكرياتٍ غير تلك الغرفة الباردة.

في غرفة البرد القارس والدّمار المتزايد حوله يفترش الأرض، ويتّكئ إلى حجرٍ سقط من جدارٍ في بيته كان يحمل صورة عائليّة له ولأولاده وزوجته وأحفاده. تئنّ الجدران وجعًا على ذلك الرّجل الّذي كان يتّكئ على بقايا جسده، ويذرف الدّمع، ويغنّي المواويل المبحوحة، فتسمعه الجدران الّتي تبقّت له من منزله، فترتجف لبقايا جسد، بقايا وطن، بقايا إنسان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى