مقالات

نحن والتاريخ: أسئلة الحرب بين زمنين

د. وسام الفقعاوي- مجلة الهدف

إن أية مناقشة لما انتهت إليه القضية الفلسطينية سنة 1967، لا بد وأن تنطلق من بديهة مفادها: أنه ما كان لقضية فلسطينية أن تقع، بل أن تنشأ أصلًا، لولا موقع ودور فلسطين في مركز القلب من المنطقة؛ المُستهدفة أساسًا من مشروع إمبريالي شكل رافعة تاريخية وراهنة للمشروع الصهيوني، وتأسيسًا على ذلك، ولكي لا نقع في خطأ يمس أسس وجوهر الصراع، فإن المنطقة العربية هي الأصل، وما عدا ذلك، بما فيه فلسطين، لم يكن إلا فرعًا ونتيجة، حتى ولو بلغ الفرعي حجمًا، حجب الأساسي وفاقه حضورًا مباشرًا. هذه البديهة، صحيحة ودقيقة وعلمية، ولكنها عربية، أما البديهة الفلسطينية، فهي أن مسرح الجريمة المستمرة وضحيتها المباشرة، كانت فلسطين؛ أرضًا وشعبًا، وهذه المسألة بالنسبة للفلسطينيين، كانت وما زالت، مسألة وجود، أولًا وأخيرًا، أكدته كل مجريات الصراع المفتوح وطبيعته الشاملة، وتتأكد يوميًا في ضوء المقتلة وحرب التدمير والإبادة الجماعية المشنة ضد قطاع غزة وأهله، منذ السابع من أكتوبر، وعليه؛ كان الاختلاف في عمق ردة الفعل وطبيعته بالنسبة للفلسطينيين، هو اختلاف في حجم الضرر ودرجة المباشرة فيه. كان الضرر بالنسبة لهم مباشرًا وكاملًا ومستمرًا؛ جماعيًا وفرديًا، ولذا كان من الطبيعي، أن تكون ردة فعلهم سريعة وتبحث عن المباشر في الأفعال والأقوال، وهذه سمة طبعت مسار حركة التحرر الوطني وحتى من بدأ منها بمنطلقات قومية واحتفظ لنفسه بوجود وفعل على مساحة الوطن العربي، كحركة القوميين العرب، التي كانت أكثر تعبيرًا عن المناخ الحقيقي للهزيمة وأثرها على الشعب الفلسطيني، لجهة التحولات الفكرية والتنظيمية وصولًا لحلها نهائيًا.
لقد انبرى البعض من منظري الهزيمة، الذين نجدهم في مجمل زماننا العربي ومنه الفلسطيني؛ حاضرون باستمرار، “يتطوعون” بقصد أو بدونه، لإكمال ما أنجزه وينجزه العدو عسكريًا، من خلال التنظير دائمًا لنصف الحقيقة، وهي انتصار إسرائيل المادي كما جرى سنة 67، وهو ذات التنظير الذي “تطوعوا” به، منذ ما بعد السابع من أكتوبر الماضي، بحيث صوبوا سهام تنظيرهم في الحالتين، في ذات الوقت الذي كانت حمم النار الصهيونية؛ تنصب على رؤوس الجيوش العربية من جهة، وما زالت على أهل القطاع من جهة أخرى، ولم يعلن من يَصُب هذه الحمم انتصاره النهائي، رغم مرور 57 سنة على حرب حزيران/يونيو، وما يزيد عن ثمانية شهور من حرب الإبادة على القطاع، بل ما زال يعلن الحرب الدائمة على الجميع. في المقابل وعلى الضفة الأخرى، ضفة الشعب الواسعة، كان الإيمان بالحق كاملًا؛ كان العداء لإسرائيل كاملًا؛ كان الحق في المقاومة كاملًا، كان ثمة قاعدة مبدئية عريضة، ومادية في الوقت نفسه، جوهرها الحق والموقف منه؛ فالجرح المفتوح والنازف دمًا ومأساةً وتهجيرًا وضياعًا وسحقًا، غير مطالب، ولا يملك ترف تمييز الأساس الفكري أو لون ومصدر السهام العاملة فيه ذبحًا وتنكيلًا، أو أن يقرر التألم تبعًا لجنسية الضربة وهويتها الفكرية؛ فما حدث ويحدث ليس مناظرة فكرية، بل شأنًا يمس البشر ووجودهم نفسه.
تاريخيًا كان الإيمان بالحق والعمل المباشر من أجله والسعي لتجاوز كل العقبات التي تقف في طريق ذلك الحق صحيحًا بالكامل، كرؤية سياسية، ولكن لنا الحق أن نسأل بالمقابل: هل كانت الرؤية كاملة وعميقة وشاملة، بحيث تحيط بكل الشروط التي أنتجت الهزائم المتتالية وتحافظ وتراكم على الإنجازات المحققة؟ واستطرادًا، هل ما طرح من حلول في حينه كان كافيًا ومستجيبًا وقادرًا على تأمين الرد المطلوب.. وصولًا إلى واقعيتها…؟ وعليه، هل يمكن أن نؤمّن جوابًا صحيحًا، يحفظ لنا توازننا الداخلي، في ظل الانكسارات والاختلالات العنيفة التي نتعرض لها؛ أمةً وقضيةً؟ أسئلة بل اشكاليات كبيرة، قد لا يتسع هذا المقال لتناول الإجابة عليها تفصيلًا، لكنها تبقى مفتوحة للإجابة في سياقه وضمن حدوده، بما يجعل الباب مفتوحًا لإسهامات كل من يهمه الأمر من الكُتَّاب الوطنيين. لكن، ما يجب التأكيد عليه قبل الولوج إلى مقاصد الأسئلة التي سيتناولها المقال، هو أن اختيار السؤال ليس مجرد اجتهاد نظري ولا امتحان للإرادة الفردية الحرة، وإنما هو مراجعة للحاضر بجذوره في الماضي القريب وامتداداته في المستقبل المنظور، أي أنه “الشك” في صلاحية اليقين السائد كمجموعة من الأنساق الفكرية والقيم المعيارية، وهو أيضًا “الاختراق” لأستار الغد المُحتَجِب في محاولة استكشاف المجهول، والإشكالية المضمرة بين الشك والاختراق هي الزمن كفضاء غير مكتمل القسمات، إذا لم نشارك في ملئه لن ينتظرنا أحد، فالزمان كالمكان كلاهما لا يعرف “الفراغ”. فمن ضمن الثابت هو أن صحة الفكرة ومشروعيتها مسألة منفصلة بالكامل عن واقعيتها، وهنا أهمية التمييز بين القيمة النظرية للفكرة وبين القيمة العملية لها، كقيمتين منفصلتين؛ أما أن تستغرق الأولى في الثانية فهو الخطأ بعينه. وهنا يجب التنبيه إلى أن ثمة معادلة خاطئة وجهها الأول إدانة الفكرة وسقوط قيمتها، إذا ما فشل أصحابها في تحقيقها، أو نجح أعداؤها في منع تحقيقها، أما وجهها الثاني، فهو افتراض تحقق فكرة بمجرد امتلاكها للمشروعية والأخلاقية السياسية المطلوبة. لكن، يبقى الشيء الثابت، بأنه رغم الانتصارات التي حققها العدو الصهيوني والاختلال الكبير في ميزان القوى لصالحه، لم يتمكن من إغلاق صفحة التاريخ، وإبقائها “إسرائيلية” فحسب، بل كانت في المقابل مقاومة الأمة العربية والشعب الفلسطيني التي لم تخبو يومًا، وتعددت أشكالها ووسائلها وأدواتها، وصولًا ليوم 7 أكتوبر الذي كان تاريخيًا بمقاييس الصراع الشامل ومحددات ميزان القوى، وما أثبته من قدرة على إلحاق هزيمة مدوية بالجيش الإسرائيلي، ودك أسس المشروع الصهيوني في المنطقة، وما استدعاه ذلك من حشد القوى الإمبريالية (الحلف المعادي)؛ الصانع والناظم والحاضن والراعي له، وشنها حربها الشعواء على قطاع غزة، بحيث وقع عبء المواجهة والتصدي وتحمل النتائج على الكتلة الجماهيرية وقوى المقاومة التي تقاتل في الميدان، في ظل غياب شبه كامل للمؤسسة الرسمية الفلسطينية من جهة، وتواطؤ وتخاذل ومشاركة رسمية عربية في الحرب/العدوان من جهة أخرى، خاصة وأننا نتحدث عن “أنظمة”، جاءت كامتداد لحركة التحرر، سواء الفلسطينية، ممثلة بمنظمة التحرير وما عبرت عنه كفاحيًا، أو جاءت كاستمرار للتجربة الناصرية، لكن في سياق الثورة المضادة لمجمل أفكارها الوطنية/القومية والاجتماعية – الاقتصادية، وهذا ألقى بثقله الكبير، بل القاسي بكل معانيه ومضامينه وتعبيراته على الكتلة الجماهيرية التي وجدت نفسها شبه وحيدة في ميدان المعركة، إلا من بعض التضامن الشعبي العربي والأممي الآخذ في الاتساع، إلى جانب المساندة من قبل جبهات قتال مهمة أخرى، وهذا الأمر مع سوء إدارة الوضع الداخلي وثقله في آن، وضع الكتلة الجماهيرية/الشعب أمام أعباء صعبة، لا بد إزائها من طرح الأسئلة ومعالجتها – قدر الإمكان -.
سؤال الحرب: هل هي مشروعة؟!
إن تقصي الخلفية الفكرية التي قامت عليها حياتنا السياسية عربيًا وفلسطينيًا منذ ما قبل هزيمة 1948 مرورًا بهزيمة 1967 وصولًا إلى فتح/نصر السابع من أكتوبر كما أسميته في مقالة سابقة نشرت في بوابة الهدف، بعنوان: (طوفان التحرير: المستحيل غدا ممكنًا)، سنجدها عبارة عن تاريخ النضال ضد الاستعمار بمختلف أشكاله، سواء تدثر بالخلافة الإسلامية كالدولة العثمانية، أو تلّحَفَ بعناوين الحرية والإخاء والمساواة كالدولة الفرنسية، أو تسلَّح بالتفاهمات مع الزعماء والملوك العرب كالدولة البريطانية، أو حاملًا لسيف “يهوه” ووعده “بأرض الميعاد” كالدولة الصهيونية واستعمارها الاستيطاني الإجلائي الاحلالي… بمعنى آخر، أن تاريخ الوطن العربي بمجمله، منذ ما يزيد عن خمسة قرون هو تاريخ الصراع السياسي ضد الاستعمار/الاحتلال والذي كان هدفه الأساسي – وما يزال – إبقاء هذا الوطن خلف أسوار التمزق والتخلف والحرب الأهلية المضمرة والمعلنة ونهب الثروات ومصادرة الحقوق والحريات، وصولًا إلى ما يمكن تسميته بالاستلاب التاريخي لإرادة الأمه العربية ومنها الشعب الفلسطيني وإخضاعها لإرادة المُستعمِر/المحتل بالكامل.
من على منصة “أوسلو” المنتصبة في ساحة البيت الأبيض، يوم 13 أيلول/سبتمبر 1993، وقف اسحق رابين، قائلًا: “نحن الجنود العائدين من الحرب، ملطخين بالدماء (…) نحن ضحايا الحرب والعنف، لم نعرف عامًا واحدًا أو شهرًا واحدًا لم تبكِ فيه أمهاتنا أبناءهن”، وهو يمد يده “لسلام الشجعان”، دون أن ينطق من يقابله بحرف واحد في دحض ذلك (١)، بل ارتسمت البسمة على الشفاه، في الوقت الذي كانت الحرب تقطر دمًا من بين أنياب رابين الميت جسدًا والباقي فكرةً وأداةً ووظيفةً، وكان رابين قادرًا على أن يبدأ من ثانيًا؛ طمسًا للحقيقة والأسئلة الصحيحة: من الذي بدأ الحرب؟! ومن هو الضحية الفعليّة لها؟! ومن المُستمر بها؟!
وهذا يعني، بأننا كنا وما زلنا حتى في زمن توهم السلام، أمام حرب دائمة طرفها التحالف الاستعماري الصهيوني وإن تغيرت أسماؤه وأنظمته، فهو في الجوهر واحد طالما أهدافه واحدة ومشتركة، وعليه فإن القراءة التاريخية الصحيحة، هي تلك التي تبدأ من النقطة الصحيحة وتنتهي بها. القراءة التي تحاول رؤية كل شيء. القراءة التي تأخذ بعين الاعتبار المسار العام في سياقه العريض على ما فيه من صعود وانكسار وتشابكات خارجية، هي الحصيلة الطبيعية لمسيرة الاشتباك التاريخي مع عدو خارجي، كان حاضرًا في صناعة السياسات الداخلية ويُلقي بكل ثقله عليها، وأكثر من ذلك، اضطلع، ولأسباب موضوعية تاريخية؛ بدور حاسم في تقرير كثير من النتائج الماثلة أمامنا اليوم.
يحق لأي قارئ أن يبدأ من التاريخ الذي يراه مناسبًا أو ملائمًا للقراءة التاريخية الموضوعية، حال تَوَضحَ أمامه الهدف المشترك بين كل التواريخ التي حفلت بواقعنا العربي والفلسطيني، منذ كانت الضربة الأولى التي وجهت للتجربة الفلسطينية المسلحة سنة 1970 على يد النظام الأردني، حيث لم تخسر التجربة أرضًا صلبةً ومناسبةً فحسب، بل أطروحتها السياسية أيضًا. في 1975، أُغرقت في الوحل اللبناني، وانصب جهدها هناك. في 1982، أُخرجت عبر القوة الإسرائيلية المغطاة طائفيًا من لبنان. في 1991 دخلت مدريد ومن بابه الخلفي؛ تسللت إلى أوسلو، فالبيت الأبيض، حيث تحقق الهدف الفلسطيني لإسرائيل من حرب 1967، التي حرثت لها أرضًا خصبةً سنة 1948، وقفت على ما أثمره سايكس- بيكو/بلفور…
نجد بين كل خطوة/تاريخ أكثر من بُعد له، بدءًا من 1970، حيث تقاطعت مصلحة النظام الأردني مع الإسرائيلي تحت المظلة الأمريكية. في 1975 كان الحريق اللبناني ودخانه غطاءً وتغطية لأكثر من مصلحة وطرف مستفيد من تمرير اتفاقية سيناء والنهج الساداتي – الكامب ديفيدي. في 1981 فشلت قمة فاس العربية؛ فتدخل المبضع الإسرائيلي ليفتح لها الطريق سنة 1982. مع أن الدور السعودي كان حاضرًا وبكثافة من خلف الستار دائمًا – كما هو في هذه اللحظة القائمة – ولكن مهمة تمرير قرارات “فاس” أوكلت مباشرة وعلانية للسعودية، فانتهت فاس بمدريد، فأوسلو، وصولًا لأبراهام، وكان لكل جهده في التكييف والترويض.
يكاد الزمن/التاريخ أن يتلاشى أو يختلط أو يتوقف عند: 1917 أو 1948 أو عند 1970 أو 1975 أو 1982 أو 1993 أو 2014 أو أي تاريخ آخر أو وسيط وجامع بينهما 1967 في ذكرى حضوره الحزيراني السابعة والخمسين، حيث كان الزمن هو زمن البترودولار، وكان المطلوب من النظام الإمبريالي العالمي وأداته الصهيونية، من خلال ضربة 1967، انتزاع “الدور” من الموقع، وليس تغيير الوظيفة، ذلك أن الدور في “الموقع المصري” بقاؤه مرهونًا بوظيفة محددة: هي وظيفة العضو في الجسم، العضو العربي في الجسم العربي، والذي لم يكن من الممكن أن يتحول إلى مضاد لأمته العربية، إلا بالحرب ضده وقلبه من داخله، وهذا ما اضطلع به أحد القادمين من رأس النظام وثورة ضباطه الأحرار، في شخص السادات، ليصيغ معادلة السلام المستحيل وزيارة القدس عام 1977 ومن ثم كامب ديفيد؛ محمولًا على أكتاف محاربي نصر السادس من أكتوبر العسكري؛ لهذا لم تكن هزيمة 1967، عسكرية أو اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية فقط، بل هزيمة شاملة، ليس لمصر فقط، بل للعرب جميعًا، لأنه حين سقطت الناصرية في مصر، سقطت أرقى مراحل “النهضة” وأكثرها تقدمًا، وهذا السقوط المدوي لا يمكن حصره للفشل في امتحان الديمقراطية بكافة مستوياتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية فقط، على أهمية هذه النقطة وجوهريتها، في سياق التجربة الناصرية والعربية عمومًا ومنها الفلسطينية، لنصل لاستنتاج مفاده بأن سايكس – بيكو ونهجه، كان يدفع بكل قوته وبكامل أطرافه صوب تحقيق أهدافه المتعددة والمنضبطة لنظام أساسي هو مصلحة النظام الإمبريالي الصهيوني الأم؛ ربما لا جديد البتة إلا درجة العلانية/الوقاحة/الشكل الذي يربط بين كل هذه التواريخ/الأسماء وتاريخ وأسماء المشاركين في حرب الإبادة المستمرة منذ ما بعد 7 أكتوبر.
تأسيسًا على ما سبق، هل نحن في حرب دائمة أطرافها معلومة تاريخيًا؟ وبالتالي، هل هناك مشروعية للحرب من طرفنا، خاصة إذا ما عرفنا أن كل هذه الحرب الدائمة، لم تكن إلا حرب سياسية طويلة تهدف لإلغاء أي مشروع عربي موحد وتصفية القضية الفلسطينية، إذا أردنا عدم تضييع الخط الرئيسي للصراع بأبعاده القومية والوطنية؟ صحيح أن هناك قول قديم مأثور: “لا تتمنوا لقاء العدو”، قد يحاول البعض توظيفه في دحض فكرة مشروعية الحرب من طرفنا، وتشريع انهزامهم أو انسحاقهم أمام العدو، لكن هذا البعض يتجاهل أو يتحايل على أن من نُسب إليه هذا القول، هو من قاد حربه المشروعة، في أكبر عملية “توحيد” للدولة العربية الإسلامية التي استمرت ما يقرب من عشرة قرون… وعليه، فإن لقاء العدو في هذه الحالة، يجب أن يكون هدفًا دائمًا كما هي الحرب دائمة، وهنا بالضبط موقع المقاومة العربية والفلسطينية للمشروع الاستعماري الصهيوني قبل ظهور الأحزاب والزعامات، وكذلك استمرت بعد نشأتها، وبعد أن تخلى العديد منها عن دورها ووظيفتها، بل وغدا جزءًا منها، من الحرب الدائمة على القضية العربية والفلسطينية.. فالحرب/المقاومة/حق الدفاع عن النفس من قبلنا، تأتي في سياق الصراع المفتوح مع العدو، وهنا موقع فتح/نصر السابع من أكتوبر بالمعنى التاريخي، الذي كان يحتاج لرد صهيوني يُعيد تأسيس الصراع من على قاعدة مقدماته الصحيحة، بين مشروع استيطاني – إقتلاعي – إبادي، يمثل رأس حربة ووكيل للغرب الاستعماري – الإمبريالي؛ يريد أن يُبقى الأمة أسيرة النهب والتخلف والتجزئة والاستلاب، وضد التاريخ وحقائقه الراسخة في آن، وبين الأمة العربية والشعب الفلسطيني في مقدمتها، التي تعمل كي تعيد التاريخ إلى مجراه الصحيح؛ إذا وعينا أن التاريخ لا يحرق المراحل ولا يقفز في الهواء ليعود إلى قواعده “سالمًا”.
ومع أن الاستعمال العام لمصطلح المقاومة، قد يوحي بأنها ردّ أو ردّ فعل، إلا أن كارل ماركس يعتبرها هي الظاهرة الأولى للقوة (٢)، وفي عصر القوة الحيوية والسياسة الحيوية، لا بد من أن تتداخل الحرب/المقاومة بشكل محكم مع المسائل الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، وبالتالي؛ فإن صحة التركيب الاجتماعي للكتلة الجماهيرية/الشعب، هو الذي يقوي وينفخ الحياة في المقاومة ضد حالة الحرب العدوانية الدائمة. فعندما غدت الحرب العنصر المؤسس للسياسة، وعندما صارت حالة الاستثناء دائمة، فإن المقاومة يجب أن ترتفع لتأخذ القيمة التي لا تعلوها قيمة؛ كشرط ضروري للتحرير، وقد يكون علينا أن نقول: إن حروب التحرير الكبرى، يجب أن تكون موجهة في المطاف الأخير، نحو “حرب ضد الحرب”، أي أن تكون مجهودًا قويًا فعّالًا لتدمير النظام المُديم لحالة الحرب الدائمة على أرضنا: العدو ومن يدعم نظامه الاستعماري – الإمبريالي. لهذا، نحن بحاجة دائمة لإعداد استراتيجي، كما دوام الحرب حتى النهاية، وأولى دروس الإعداد على هذا الصعيد عربيًا وفلسطينيًا؛ ضرورة سد الفجوة العميقة القائمة بين تحرير الأرض من ناحية، وتحرير الإنسان من ناحية أخرى، وبين ربط التحرر الوطني والتنمية الوطنية والسياسية من جهة، بالتنمية الاجتماعية – الاقتصادية والثقافية من جهة أخرى.
سؤال الجماهير بين حربين/زمنين: هل من خلل بنيوي؟!
اهتم عدد من المفكرين ومنهم ماكس هوركهايمر وهربرت ماركوز وغيرهما، من مدرسة فرانكفورت التي أسسها الأول، “بنظريات الصراع الاجتماعي” والتي يطلق عليها أيضًا “النظريات النقدية”، وتناولوا مسألة فشل التغيير الاجتماعي الثوري، الذي نسبوه إلى البنى الفوقية وخاصة للنظم الرأسمالية، وإلى وسائل الاتصال والتواصل التي أجهزت على السيرورة التاريخية للتغيير الاجتماعي. وترى هذه النظرية، أنه إذا كان التاريخ قد أخطأ طريقه، فإن ذلك يعود إلى أيديولوجيا الطبقة المهيمنة التي استطاعت تكييف الأساس الاجتماعي – الاقتصادي والثقافي عن طريق تخريب الطبقة العاملة وتمثيلها لها. قد تصلح هذه المقاربة لأن نعتمدها في نقاش السؤال المطروح حول الجماهير، خاصة وأن موضوعها يتجاوز مسألة “الصراع الطبقي” بالمفهوم الماركسي الكلاسيكي، إلى طبيعة الصراع التاريخي الوجودي والمصيري الذي تخوضه الجماهير العربية ومنها الفلسطينية، مع العدو الصهيوني في ظل ميزان قوى مادي وتكنولوجي مختل لصالحه على طول الخط، بحيث يجعل أمر الصراع مرهونًا دائمًا بتطور الحالة الجماهيرية، بالمعنى الأشمل للصراع وأبعاده الوطنية والقومية، التي كانت أمام أكثر من احتمال وهو رهن الموقف من الجماهير وكيفية التعاطي معها. ولا نقول هذا من ضمن الرؤية السياسية النظرية التي تحترم الجماهير وحقوقها من حيث المبدأ، بل من زاوية عملية أكثر ارتباطًا بواقع الصراع، ومفادها: أن عنصر القوة الوحيد المُختبر والمُجرب المتوفر كان الكتلة الجماهيرية ودورها.
بكلمة أخرى، إن إطلاق فعاليات الجماهير، ليس مصلحة حق أخلاقي لهذه الجماهير/الشعب، خاصة من قبل الذين ينطقون باسمها ويعملون من أجلها فحسب، بل ضرورة عملية وسياسية لمشروع المجابهة مع المشروع الصهيوني. استطرادًا، فإن الموقف من الجماهير، التي حمت المشروع الوطني وتصدت للغزوة الصهيونية قبل بروز قيادة رسمية للمواجهة، كان يفترض أن يكون موقفًا مبدئيًا، حيث لم يمنع نشؤ سلطة جديدة “ثورية” من الاحتفاظ بالنظام القديم.. سلطة لا قوة لديها ولا سلاح أساسي إلا الجماهير؛ تهمش دور الجماهير وتسطحه، والحصيلة، نعم للجماهير ولا للديمقراطية، نعم للكتلة الجماهيرية كأفراد، ولا لهذه الكتلة منظمة ومؤطرة.. رويدًا رويدًا، بدأت رواسب المسافة بين القول والفعل تصبح أكثر اتساعًا وأكثر انكشافًا، وبدأت في الترسب الثنائيات المتناقضة، التي كانت تنتج باستمرار ثنائيات جديدة أكثر تناقضًا وضررًا. فمع غياب الديمقراطية وتأصيلها الاجتماعي – الثقافي، كان على القمع بأشكاله المختلفة أن يحفظ التوازن، ويملأ الفراغ في مصدر الشرعية والسلطة. كان يجري الاعتداء على حرية الإنسان/المواطن وحقوقه ومصلحته باسم حرية الوطن والحصيلة وضع الفرد والجماعة ومصلحة الوطن والمواطن في تناقض، وعبدَّت بعض الأحزاب والأنظمة الطريق إلى فلسطين عبر الأحكام الثورية تارة والعرفية تارة أخرى، بحيث أصبحت المعادلة أو الحصيلة لذلك، أن حرية الوطن تعادل القمع في الذهنية العامة، دون أن يبادر أحد لطرح سؤال: هل يُعقل أن من يقاتل من أجل حرية شعبه يصادر حرية شعبه في الوقت ذاته؟!
فات هؤلاء بأن حصيلة تغييب التاريخ والفكر والشعب؛ أن غابت الحرية، وبقيت حبرًا على ورق طوال تاريخنا الحديث، وكذلك فاتهم بأن الخطأ التأسيسي، عندما يدخل حيز الواقع يأخذ مداه، ويتشظى أخطاء في الاتجاهات كافة، ويصنع لنفسه عالمًا على مقاسه وانطلاقًا منه. إن الخطأ لا ينتج خطأً فحسب، بل يتغذى منه في علاقة تبادلية وبالاتجاهين من ناحية، وانشطارية من ناحية أخرى، وذلك في عملية قسرية لا تنتهي ولا تقف عند حد، لدرجة غدت معها كلمة الجماهير/الشعب دون معنى، ولكن هذه النهاية، لا تَلغي حقيقة أن هذه الكلمة قد احتاجت لحوالي ثلاث أرباع قرن كي تُستهلك وتُجوف، وهي لم تدخل القاموس السياسي عبثًا، وتمجيد دورها، لم يكن منّة من هذا المفكر أو الزعيم أو ذاك الحزب أو التنظيم؛ دفعت الثمن المطلوب وقامت بدورها المطلوب لتستحق المكانة التي احتلتها في الضمير السياسي.. إن ذاكرة أيّ منا، حافلة ومثقلة بالأمثلة التي تؤكد أن أكثر صفحات المجد في تاريخنا الحديث قد كتبتها الكتلة الجماهيرية، ولعل أصدق تأكيد على ما سبق هو ما قاله الدكتور جورج حبش، أهم قائد لأكبر حزب يساري فلسطيني: “تحدثنا كثيرًا في أدبياتنا ووثائقنا حول أهمية العمل بين صفوف الجماهير وتحسس آلامها ومعنوياتها ومزاجها، إلا أننا وبكل صراحة أقول تأثرنا بأمراض الظاهرة العلنية وأمراض المقاومة بشكل عام، بحيث أصبحنا نعاني من البيروقراطية والمكتبية والمراتبية، وهي أمراض فتكت بالعديد من الأحزاب الشيوعية العالمية” (٣). لكن الأدهى والأمر، أنه بعد مرور أربعة وثلاثين سنة على قول/نقد “الحكيم”؛ استغرق مفهوم الحزب/التنظيم السياسي، الذي هو أرقى أشكال العمل الجماهيري المنظم، في مفهوم السلطة، وهذا بدوره استغرق في الأشخاص التي يتولونها، لأن العبرة ليس في الشعار/القول فحسب، بل في المناهج والسياسات والممارسات الفعلية – التي لم تختلف عند الجميع – وفي القلب منها الموقف من الجماهير، حيث قاد عدم الوضوح النظري والسياسي على هذا الصعيد إلى توفير الشروط الموضوعية إلى استمرار اختلال البنية الداخلية، وإلى تآكل عنصر القوة الأساسي؛ أي الجماهير التي خضعت والحال هذا إلى ما يثير انفعالها، ولم يقدم لها ما يكفل تفعيلها واستثمار طاقاتها إلى أقصى حد ممكن، وإذا كان الحد الفاصل بين موقف حزب أو نظام ونقيضه هو الموقف من الجماهير، فإن ضمان الحرية والديمقراطية كنظام حياة، بحواملها الاجتماعية الثقافية، وليس آلياتها فقط، هي الخط الفاصل أيضًا بين موقف حزب/نظام صحيح، وبعيد المدى والنظر يمكن أن يقود إلى تفعيلها وتحويلها نوعيًا، وبين موقف حزب/نظام خطأ، قصير المدى والنظر يقود إلى انفعالها، وابقائها كمًا، وهو ما كان، حيث تجاوزت المسألة ذلك، أو استمرت على ذات السيرورة بمعنى أدق، إلى أن وصلت أدوات قمع الحزب/النظام – من وصل منهم السلطة، ومن لم يصلها منهم فعليًا – لأعضائه المختلفين والمبدعين أو لأبناء شعبه؛ حبسًا فكريًا وفعليًا وإقصاءً تنظيميًا وفصلًا وظيفيًا واغتيالًا ماديًا ومعنويًا.. إلى أخر أشكال القمع والسلب والاضطهاد، وبالتالي انغلاقًا داخليًا، حتى أصبح الحزب السياسي كما الوطن، ملكًا حصريًا للأمين العام أو الزعيم. والحال هذا، كنا ومنذ البداية عربيًا وفلسطينيًا أمام أخطاء تأسيسية – بنيوية، لا بد وأن تظهران عاجلًا أم آجلًا، وعلى أية حال، لم تتأخر النتائج في الظهور؛ فجملة الأخطاء التأسيسية والبنيوية هذه، والتي حولت الجماهير/الشعب إلى سلاح تكتيكي، لم تُحسن حتى استخدامه، مما أدى في فترات عديدة إلى شله وفي أخرى تحوّل إلى سلاح مضاد، حينما يتقدم تبديد الموارد والطاقات، على تركيمها وتفعيلها.
تنحصر نتائج الأخطاء التأسيسية هذه في نتيجتين بارزتين: أولاهما، توفير الشروط الموضوعية لاستمرار اختلال البنية الداخلية وعدم توازنها، بحكم انعدام الآليات التي تكفل ذلك التوازن. أما الثاني، فهو توفير الشروط الموضوعية أيضًا، لاستمرار الاختلال في ميزان القوى مع العدو، الذي كان يملك آليات تكفل تحقيق التوازن في بنيته الداخلية وإطلاق فعاليتها، وتركيم مزيد من الطاقات، وتحسين ميزان القوى لصالحه، وهنا حتى لا يخطئ أحد القراءة؛ فالأمر يتجاوز السابع من أكتوبر ولا يتجاوزه في الوقت ذاته، يتجاوزه بالمعنى التاريخي بالنظر إلى مستقبل الصراع، ولا يتجاوزه بما وضعه هذا اليوم/التاريخ من تحديات أمام “المجتمع/النظام” الإسرائيلي برمته، وبالتالي لم يكن اختلال/اختراق ما درجنا على تسميته بالجبهة الداخلية في قطاع غزة – مع حذري الشديد في تناول هذا المفهوم كما درج – بالأمر غير المنزوع من سياقه التاريخي، كما لم ينفع عسكرة المجتمع المصري في تفادي هزيمة 1967 أو تحاشي وقوعها؛ كون الأخطاء التأسيسية والبنيوية، من طبيعة وجنس واحد.
سؤال النقد.. هل هو عقاب للذات أم دفاع عنها؟!
لا ينفصل هذا السؤال الحيوي عن مسألة غياب الديمقراطية وحاملها الاجتماعي الثقافي، رغم إكثارنا من القول بالنقد في الحالتين العربية والفلسطينية، إلا أنه ما يزال مستوى ومنسوب الأخطاء يتسع باستمرار، وهذا ما يعطي النقد مشروعيته الدائمة، انطلاقًا من حقيقة إنسانية وهي استحالة منع الوقوع في الأخطاء، ولكن الممكن، هو الحد منها إلى أقصى قدر، وهذا الحد الذي أعنيه؛ رهن حسن التدبير والتفكير، وهذا بدوره رهن كفاءة صاحب الممارسة التي لا بد في المحصلة، وأن تصنف في خانة سلبية أو إيجابية، وعليه؛ فإن مسألة النقد ضرورة حيوية، وتتوقف على مدى الاهتمام بجوهر النقد وموضوعه وعمقه، وأن يكون جزءًا لا يتجزأ من قاعدة أشمل هي المراجعة العلمية والدورية والمتقاربة، وهذه بدورها يجب أن تكون جزءًا من نظام الحياة نفسه، في المؤسسة؛ دولة أو حزب، بما لا يُخضع النقد للتسطيح والشخصنة أو الابتذال وعدم الاهتمام والتواطؤ والتجاوز الممنهج، وبالتالي تشريع الانقضاض على من يمارسه، بما يفضي إلى عدم تمليك النقد عناصر الدفع الداخلي التي تضمن استمراريته بطريقة سليمة وصحيّة. ولقد دلت التجربة الملموسة والمعاشة، على أن من يتوهم أنه بالانقضاض على النقد وصاحبه، يمكن أن يُخفي الحقيقة أو يعمل ضدها، فإنه سينتهي الحال به عند نقطة أسوأ مما طاله النقد.
إن أولوية النقد في هذه الحالة، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمكانة الوعي في درء أي خطر محتمل، ولكن إزالته نهائيًا تبقى رهن حسم مسألة، كيفية التعامل معه، وإدراك متأصل بأن حصيلة أداء وواقع أطرف الحركة السياسية هو الذي يقرر صورة الأداء الوطني وحقيقة واقع حال القضية والشعب والوطن، وأنه سيرتد، إن عاجلًا أو أجلًا، على الجميع، بما في ذلك الفرقاء الأكثر بعدًا والأقل دورًا في الحصيلة المحققة سلبية كانت هذه أم إيجابية.
في حال هكذا، يغدو النقد عبارة عن تجليات عميقة معبرة عن الجدل القائم في فضاء الفكر القومي والوطني في حركيته اليومية، مستندًا ومؤسسًا على رؤية فكرية – تاريخية، تجعله جماعيًا أكثر من أن يكون فرديًا، ليصل إلى هدفه المرجو في تصحيح الذات وحفظ توازنها وتعزيز المشترك بينها وتركيم عوامل نهوضها، وبالتالي؛ ضمان استمرار تقدمها، وهنا يتسم النقد بصفة الدفاع عن النفس مرتين.. واحدة كي لا تتعسف على ذاتها وأخرى كي تحفظ وجودها، وعدم فقدانها لذاكرتها كما يذهب الدكتور غالي شكري؛ وذاكرة الأمة، ليست التاريخ السياسي للحكام أو الأحزاب، وإنما هي التاريخ الجماعي للشعب؛ تاريخ الأرض والناس والقيم؛ تاريخ الزراعة والصناعة والثقافة؛ تاريخ العلاقات الاجتماعية والضوابط والمعايير؛ تاريخ الفنون والآداب والعلوم؛ تاريخ اللغة والأفكار والأخلاق والجمال… والذاكرة ليست التاريخ المكتوب أو المحفوظ في المتاحف والملفات فقط، ولا هو التراكم السردي للحوادث، فهناك مصفاة داخلية في العقل الجماعي لا تُبقي على غير التاريخ الحي، باعتباره حياة مستمرة، وليس آثارًا من الماضي (٤). وكون النقد لم يتمأسس في الذهنية القومية والوطنية، كمسألة منهجية ويومية، نجده في أحيان كثيرة، يعبر عن حالة من عقاب للذات والنقمة والغضب، خاصة في المراحل التي تتعرض فيها المجتمعات لهزائم أو اختلالات عنيفة، تفقد تحت أثرها توازنها الداخلي، ويصبح النقد رميًا في كل اتجاه، ورغم كل ما فيه من شرعيّة، إلا أنه قد يشكل في جوهره محاولة للهروب إلى الأمام والتنصل من الواقع عن طريق المبالغة في عقاب الذات، لتغدو ظاهرة تشكل خطرًا عامًا، لأنها تضيف مخاوفًا وأعباءً وأوهامًا جديدةً، تُفقد صاحبها تحت ضغطها؛ قدرة التقييم الموضوعي والحقيقي لواقعه وقدراته، ويتحول النقد في هذه الحالة من طاقة للبناء إلى طاقة للهدم، ويصل في نهاية المطاف، إلى تَمزُق الذاكرة؛ تَمزُق الوطن والشعب الواحد وتضرب في جذور الوحدة الوطنية وهذا ما حصل فعليًا، بالوقوع بين الطائفية على صعيد القاعدة الشعبية في الحالة المصرية، والانقسام على مستوى الأحزاب السياسية في الحالة الفلسطينية، وقد تناول وكثف غسان كنفاني ذلك في امتزاج حالتي النقد معًا في تيارين: الأول، تيار من المراجعة الشُجاعة والموضوعية الهادفة. والثاني، تيار من العويل والتخذيل والرمي في كل اتجاه، والذي لا يرمي في نهاية المطاف، إلا إلى التمفصل وراء ستار النقد، باسم النقد والمراجعة في فترات الهزائم والاختلالات، حيث يمارس التيار الأقل قدرة على الصمود؛ لعبة الانتحار، فيدخل في فوضى تقييم الأشياء والأمور والمواقف، ويرتكب أخطاء جسيمة في إدراك حجومها الحقيقية وأمكنتها في الصورة المهزومة/المختلة برمتها، وتلقى هذه “اللعبة”؛ أرضًا خصبة للاستقبال، وسط الانكسار الذي تعممه الهزيمة/الاختلال، ومن هنا يكتسب خطورته (٥)، وهذا ما نجده مشتركًا في الكثير من النقد الذي طال هزيمة 1967 وعملية السابع من أكتوبر، ففي الحالتين اشترك النقد في “تهديم” التجربة الأولى التي باغت العدو فيها دولنا العربية بحربه عليها وفي مقدمتها مصر الناصرية، بما تمثل من رأس حربه في حينه في مواجهة الاستعمار والإمبريالية والصهيونية؛ محليًا ودوليًا، دون الاستفادة من الكثير من منجزاتها، وصولًا للانقلاب عليها من أقرب حلفائها أو صنّاعِها في خط صاعد من الهبوط. والأمر ذاته، يطال النقد الذي وجه للسابع من أكتوبر، الذي لأول مرة في تاريخ الصراع، نباغت نحن العدو بهذا المستوى من التخطيط والكفاءة والذكاء والعدد، دون أن يتوقف أصحاب هذا النقد برهة، تحت ضغط ما جرى منذ الثامن من أكتوبر وحرب الإبادة المشنة ونتائجها المأساوية، وأمام وعي العدو وحلفه المعادي، أكثر من غيره – حتى بعض من يدَّعي أنه صاحب القضية – للأبعاد الاستراتيجية لهذه العملية على وجوده ومستقبل وآفاق الصراع ككل، لذلك عدَّ أن حربه على القطاع، هي حرب وجود وتأسيس الاستقلال الثاني لإسرائيل… لكن الأقسى من ذلك كله، أن سهام النقد هذه اشتركت أيضًا بأنها تزامنت في سنة 1967، وفي 2023 – 2024، مع صواريخ وقذائف الحلف المعادي على مصر وقطاع غزة في الوقت ذاته، فأي مصادفة تلك؟ أو أي خسارة وفقدان لحاجتنا للنقد الذي يقع ضحية للارتجال والعفوية وعدم الإمساك بمفاصله الحقيقية تارة، وللتوجيه المخطط والتهشيم المقصود تارة أخرى؟
في ختام أسئلة لا تنتهي، فلقد كشفت حرب 1967 الحضور الكثيف للعلم في الصراع وتكوين ميزان القوى للطرفين، وإن أخذ مع تقدم الفترات؛ دورًا متزايدًا وشكل رافعة سياسة العدو للتفوق النوعي في مواجهة كم عربي هائل، لم تقلل إسرائيل البتة من مخاطره، ولذا كان خيارها لموازنته تحسين قدراتها النوعية وهو ما كان. صحيح أن هذه الهزيمة؛ وضعت القيادة المصرية أمام مراجعة جدية للدولة والحكم ومؤسسة الجيش، والاتجاه نحو التحديث واعتماد معيار الكفاءة والشروط الفنية، وجسر الهوة بين مقتضيات تحقيق الهدف ومعطيات الواقع، وأشير على هذا الصعيد إلى مفصلين رئيسيين على صعيد تحديث مؤسسة الجيش، الأول، تسليم مهمة التحديث إلى عسكريين محترفين يجمعان الكفاءة والنظافة، وهنا يبرز الثنائي فوزي – رياض. والثاني، قرار “نسف” البنية البشرية القديمة ورفع نسبة المؤهلين، أي حملة الشهادات إلى حوالي 40% من قوام الجيش… ورغم ذلك، إلا أن جملة الأحداث التي سبقت سنة الهزيمة وما تبعها؛ دللت جهل/عدم معرفة القيادة المصرية حينذاك، بالمهمة التاريخية الملقاة على عاتقها، التي كانت تحتاج إلى إدارة سليمة ورؤية وممارسة سياسية من نفس المستوى، حتى لا ينقلب النظام فيما بعد من داخله على ذاته، كما حصل ما بين 73 – 1979. وهذا يضعنا أمام عدم النضج الداخلي الكافي للتجربة الناصرية، حيث حفلت بالعديد من المتناقضات، ولم تعرف مظهرًا رئيسيًا واحدًا يحدد هويتها – دون تجاوز أية إنجازات كبيرة حققتها بالفعل – وكأنها كانت تعيش في كل مرحلة مخاض داخلي حاد جدًا: فهل هي (لا) الكبرى لهزيمة 1948 التي أُطلقت عام 1952؟ أم الهزيمة الكبرى سنة 1967؟ هل هي وحدة عام 1958؟ أم الانفصال سنة 1961؟ هل هي ركام هزيمة 1967؟ أم الخروج وبسرعة قصوى منها وبناء جيش هو الذي تمكَّن من العبور عام 1973؟ وهل هي الجيش الذي ضيع منجزات السياسة في 1967 وما قبلها؟ أم السياسة التي ضيعت منجزات العسكر سنة 1973؟ أهي القيادة التي اختارت أكفأ الضباط وأنظفهم لمسؤولية تحديث الجيش؟ أم القيادة التي وقع اختيارها على السادات ليكون نائبًا للرئيس، واستطرادًا إلى مواقع المسؤولية السياسية الأولى؟ والأمثلة كثيرة على هذا الصعيد. ل
عل خير نموذج للبطل/الضحية كان القيادة الناصرية وعلى رأسها عبد الناصر نفسه الذي بمقدار ما صنع التاريخ، بمقدار ما هزمه. لقد دخل من بابين متناقضين تمامًا، باب الانتصار الكبير الساكن في الضمير الجمعي للأمة، وباب الهزيمة الكبرى التي ألقت بظلالها ولم تزل على الأمة جمعاء.
في المقابل، لقد كان السابع من أكتوبر خير توظيف لمنجزات العلم التي “افتقدتها” التجربة الناصرية قبل 1967، ولهذا سُجل هذا اليوم، باعتباره أعظم يوم عربي وفلسطيني، منذ هزيمة 1948، وتبقى دائمًا البداية الصحيحة لكي يستطيع أي عمل أن يصل لأهدافه هي التعرف الدقيق والعميق على البنية الاجتماعية وتناقضاتها العميقة؛ الأساسية والتفصيلية في آن؛ الخارجية والداخلية في الوقت نفسه، كي لا يكون كل عمل أو سياسة جهدًا ضائعًا ومعلقًا في الفراغ، حيث السياسة بما في ذلك المراجعة السياسية – التي باتت ضرورة ملحة أكثر من أي وقت مضى – من البنية الاجتماعية ذاتها، لأن كل فشل أو نجاح، لا بد أن يُقرأ انطلاقًا من تلبية أم عدم تلبية السياسة لمتطلبات هذه البنية والتعبير عنها؛ فالسياسة هي أولًا وقبل كل شيء القدرة على البقاء في حيز المجتمع وفي التحديد الدقيق للوظيفة المطلوبة واتخاذ القرار المناسب. وبكلمة محددة، إن السياسة هي المزج المبدع بين اطلاقية الأيديولوجيا وقسرية الواقع، هي فتح الأفق دائمًا.
***
(١) مريد البرغوثي: رأيت رام الله، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط.٤، ٢٠١١، ص ٢١٤ – ٢١٥.
(٢) مايكل هارت وأنطونيو نيغري: الجمهور… الحرب والديمقراطية في عصر الإمبراطورية، ترجمة: حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط.١، ٢٠١٥، ص ١٢٨.
(٣) جورج حبش: كلمة أمام أعضاء المؤتمر الخامس للجبهة، الوثائق، ص ٢٨ – ٢٩.
(٤) غالي شكري: الخروج على النص.. تحديات الثقافة والديمقراطية، سينا للنشر، مصر، ط.١، ١٩٩٤، ص ٢٠٣ – ٢٠٤.
(٥) غسان كنفاني: أفكار عن التغيير و”اللغة العمياء”، ندوة، بيروت، ١٩٦٨.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى