مؤسسة “هوية”… 14 عاماً في خدمة ذاكرة فلسطين
العربي الجديد- انتصار الدّنّان
بين عشرات الوثائق المكدسة في ملف بعنوان “بطاقات هوية مدينة الناصرة وقضائها”، لفت انتباه فريق عمل مؤسسة “هوية”، المشروع الوطني للحفاظ على جذور العائلة الفلسطينية، وجود بطاقة هوية قديمة أصدرت عام 1947 لشخص يدعى محمود بزيع، يعيش في بلدة زبقين، جنوبي لبنان، والذي مكث في الناصرة أكثر من خمس سنوات حينها.
أثار ذلك فضول الفريق، لأن صاحبها ينتمي إلى عائلة الشاعر اللبناني المعروف شوقي بزيع، وبدأ بالبحث عن صاحبها من خلال مراسلة صفحة بلدة زبقين عبر الإنترنت، وسؤال سكانها عن صاحب البطاقة. بعد أيام، أكد شخص أن محمود محمد بزيع هو خاله، وأنه لا يزال على قيد الحياة، ويناهز عمره مائة عام.
توجه فريق “هوية” إلى البلدة التي تبعد سبعة كيلومترات من الحدود مع فلسطين، واستقبلته عائلة الحاج محمود في بيتها، ثم وضع فريق العمل بطاقة الهوية القديمة الخاصة بمحمود بزيع بين يديه، وسأله عن الصورة، فشعر بدهشة واستغراب عندما شاهدها، وقال: “هذا أنا”.
أخذ الحاج محمود الفريق في جولة بين ذكرياته التي شكلت مفتاحاً لقصة تاريخية وروابط إنسانية عابرة للحدود، وأشار إلى موقع قرية الزيب الفلسطينية القريبة، وقال: “نردد المقولة الشعبية برق الزيب لا يخيب”. ثم جال مع أعضاء فريق “هوية” في البلدة، حيث زاروا مقبرة الشهداء.
يروي أعضاء الفريق أن الحاج محمود جسّد بصوته وذكرياته العلاقة العميقة بين الفلسطينيين واللبنانيين قبل النكبة، والتي امتزجت فيها الجغرافيا بالتاريخ والمصير المشترك. يقول مدير مؤسسة “هوية”، ياسر قدورة، المتحدر من بلدة سحماتا بفلسطين، لـ”العربي الجديد”: “يهدف المشروع إلى الحفاظ على انتماء العائلات إلى فلسطين بأسلوب علمي موثق من خلال البحث في الوثائق والجذور للحيلولة دون ذوبان الهوية الفلسطينية في المجتمعات التي تعيش فيها. من المهم إبراز قضية حق العودة للعائلات انطلاقاً من البعد الإنساني، وتحصين العائلات الفلسطينية من التباعد والتفكك في ظل عمليات الهجرة والتهجير المتكررة”.
يتابع: “ليست قصة الحاج محمود بزيع سوى واحدة من عشرات القصص التي كشفتها الوثائق التي تجمعها وتصنّفها مؤسسة هوية، والتي حملت على عاتقها منذ تأسيسها قبل 14 عاماً، مهمة استثنائية تتمثل بإعادة إحياء تاريخ العائلات الفلسطينية، ليس فقط من أجل استذكار الماضي، بل لتمهيد مستقبل استعادة الحقوق، وعلى رأسها حق العودة”.
يضيف قدورة: “أصدر مشروع هوية حتى الآن أكثر من 26 ألف وثيقة تاريخية مصنّفة بحسب العائلة أو البلدة أو الموضوع. هذه الوثائق متاحة على الموقع الإلكتروني، حيث يمكن أن يطلع الباحثون والمهتمون عليها بسهولة. العمل على شجرة العائلة الفلسطينية أحد أعمدة مشروعنا الذي استطاع خلال السنوات الماضية جمع أكثر من 6300 شجرة عائلة تغطي عائلات من مختلف القرى والمدن الفلسطينية في الداخل والشتات. يهدف هذا الجهد الحفاظ على صلة الأجيال الحالية بجذورها، وعلى تأكيد حق العودة الذي ينتقل من الجد إلى الحفيد، باعتباره إرثاً لا يُمحى”.
ويوضح: “وثّق المشروع أكثر من 38 ألف صورة، منها 6 آلاف للمدن والقرى الفلسطينية، وأكثر من 32 ألفاً لشخصيات وعائلات فلسطينية. ويُولي المشروع اهتماماً خاصاً بصور شهود النكبة، إذ يحتوي الموقع على نحو 5 آلاف صورة لأشخاص عاشوا نكبة عام 1948، ضمن مشروع متخصص يُعرف ببنك صور شهود النكبة، وقد حرصنا على تسجيل روايات كبار السن الذين خرجوا من فلسطين وقتها، وهي محكية بلسانهم، وتُعدّ كنزاً تاريخياً يروي تفاصيل الحياة اليومية قبل النكبة وما تلاها من تهجير. حتى الأطفال الذين غادروا فلسطين صغاراً تحتفظ هوية بشهاداتهم، إدراكاً لأهمية كل تفصيل يساهم في رسم الصورة الكاملة للتاريخ الفلسطيني”.
ويؤكد قدورة: “أدركنا منذ البداية أن توثيق تاريخ العائلات الفلسطينية عمل ضخم يتطلب جهداً جماعياً، لذا أطلقت المؤسسة برنامج تدريب يهدف إلى تمكين الشباب والشابات من مهارات التوثيق التي تتضمن جمع شجرة العائلة والبحث في مصادر المعلومات، وصولاً إلى التعامل مع الوثائق التاريخية. حوّلت هذه المبادرة عملية التوثيق إلى ثقافة عامة لدى الفلسطينيين، حيث باتت كل عائلة ترى في نفسها جزءاً من الرواية الكبيرة للوطن، وتُدرك أن حفظ ذاكرتها هو حفظ للهوية الفلسطينية بكاملها”.
ويقول:” في ذكرى مرور 14 عاماً على تأسيسها، تواصل مؤسسة هوية العمل لتحقيق رسالتها التي تتمثل بتقديم رواية متكاملة لكل عائلة فلسطينية مدعومة بالوثائق والصور وشجرات العائلات كي يروي هذا السجل الجماعي قصص الأجداد والأحفاد، ويُعيد إحياء تفاصيل الحياة قبل النكبة وبعدها. ليست هوية مجرد أرشيف وثائق، بل نافذة تطل على الماضي لترسّخ جذور الفلسطينيين في أرضهم، وتُعبّد الطريق نحو مستقبل يحمل فيه اللاجئون المفتاح والذاكرة معاً، متطلعين إلى العودة إلى وطنهم الذي لن يكون مجرد حكاية منسيّة”.