مقالات

هذا أوان الشدّ!

«وجدتُكَ أعطيتَ الشجاعةَ حقّها

الأخبار-* علي زيدان

“غداةَ لقيتَ الموتَ غيرَ هَيوبِ”
أبو العلاء المعري

استشهد أبو إبراهيم يوم الخميس 17 تشرين أول/ أكتوبر 2024. استشهد القائد يحيى السنوار في غزة، وهو ممتشق سلاحه، وكما وصفه بيان نعي المقاومة: مقبلاً غير مدبر. لم يكن أول قائد يستشهد في ساحات القتال. ولا آخر واحد. فالمعركة مستمرة إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
ترجّل الفارس الشجاع عن قمّة عنفوانه وقيادته الميدانية. كما ترجّل قبله السيد حسن، وإسماعيل هنية، وأبو علي مصطفى، ووديع حداد، وعبد القادر الحسيني. استشهد مهندس معركة «طوفان الأقصى» وهو يتنقّل من موقع إلى آخر، يشدّ من أزر رجاله ويتفقّد المقاتلين الذين أنهكوا جيوش العدو، وحطّموا معنوياته بين ركام المنازل المدمرة في غزة. مات الرجل الشجاع الذي فهم طبيعة العدو الإجرامية وقارعه باللغة التي يفهمها. فإذا كانت الرجولة أن تجابه الموت بشجاعة، فذلك هو الرجل. وإذا كانت الرجولة أن يصمد المرء في ساحة المعركة، ويقاتل مع رفاقه جنباً إلى جنب، فذلك هو الرجل. وإذا كانت الشجاعة أن يدافع المرء عن مبادئه، فذلك هو الرجل.
لقد فهم أبو إبراهيم أن ما أُخذ بالقوة لا يُسترد بغيرها. وصمد في خطوط القتال الأمامية بطلاً مقداماً، وأدار المعركة لمدة سنة وعشرة أيام، فوق الأرض، وتحت الأرض، وأينما استدعت الحاجة أن يكون. بينما لم تصمد ستة جيوش عربية سوى أيام قليلة أمام العدو نفسه. وكان يعلم أنه يحارب أعتى قوة عسكرية في المنطقة، مدعومة بأسلحة الدمار الشامل الأميركية. دافع يحيى عن معتقداته، وعن مبادئه، وعن أرض الوطن. وتحمّل نتائج أعماله حتى النهاية. وظلّ في مقدمة الصفوف، غير آبه بمخاطر الموت، رافعاً راية وحدة السلاح الوطني في مواجهة المشروع الصهيوني. إذاً، الموضوع ليس قوة الجيش الذي لا يقهر، ولا تكنولوجيا السلاح والتجسس والأقمار الاصطناعية. إنما القوة قوة الحق، وعدالة القضية وإرادة القتال. لقد مضى يحيى السنوار على هذا الطريق الذي مضى فيه عبد الرحيم محمود الذي قال: «سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى.. فإمّا حياة تسرّ الصديق وإمّا ممات يُغيظ العدى». وهذا ما حصل. أغاظهم في حياته، وأغاظهم في استشهاده، حاملاً سلاحه، مقاتلاً، ومدافعاً عن الوطن. ومضى كما مضى عبد القادر الحسيني، الذي خاطب أمين عام جامعة الدول العربية في 6 نيسان 1948 يقول له: «إنني أحمّلكم المسؤولية بعد أن تركتم جنودي في أوج انتصاراتهم من دون عون أو سلاح». اليوم أمين عام الجامعة يجعلنا نبكي ونترحم على من سبق، أمّا الدول العربية والإسلامية، فلم تترك الجنود من دون سلاح، بل وقفت تتفرج على المذابح اليومية، وتعترض صواريخ المقاومة، وتساعد القتلة على إنجاز مهماتهم الإجرامية. وكان يدرك أن العرب أضحوا بلا نخوة، ولا تهزّهم نكبات إخوتهم. فهم اجتمعوا تحت راية أميركا لتدمير العراق، وتدمير ليبيا، وسوريا، واليمن. وكل من يرفع راية العروبة أو الإسلام الحقيقي. بعضهم أرسل طائراته الأميركية الصنع لقصف مدن عربية في ليبيا وسوريا. وأرسل طائرات أميركية الصنع لترمي مواد تموينية من الجو للمحاصرين في غزة. معظمها لا يصل، والبعض الآخر يصل مغموساً بالدم. ومنهم من تحالف مع الكيان الصهيوني والإدارة الأميركية وعقد اتفاقيات إبراهيمية، ويصف المقاومة بالإرهاب. ويصف شهداء المقاومة بالإرهابيين الذين تخلّص العالم من شرورهم. صحيح ما يقوله الشاعر طرفة بن العبد: «وظلم ذوي القربى أشد مضاضةً على المرء من وقع الحسام المهند».

لقد آمن الرجل بعدالة قضيته. ودخل المعتقل لأكثر من عشرين عاماً. وعانى ما يعانيه أبناء شعبه. فأيقن أن وحدة المقاتلين ضرورية للانتصار، كما هي وحدة المعتقلين في صمودهم أمام الجلّاد. وأيقن أن الموت واحد، مهما تعددت الأسباب. وعندما يأتي الأجل، يأتي في موعده تماماً. ومن لم يمت بالسيف، أو المدفع، أو المُسيّرة، مات بغيرها. لذلك كان واثقاً من إدارة المعركة. وكان مدركاً لوحشية المحتل الصهيوني وحلفائه مجرمي الحرب النازيين في الولايات المتحدة الأميركية وحلف «الناتو». وأن طائرات التجسس البريطانية والأميركية التي كانت تبحث عن بصمة صوته، لم تجد سوى فردة من حذاء قديم. وقد ضاق ذرعاً حذاؤه من كثرة التكهنات. ولم يستطع أحد من المتفرجين أن يرفع عينيه أمام تلك الفردة.
وأدرك أبو إبراهيم أيضاً أن المجتمع الدولي كاذب، وبلا أخلاق. وهو مجتمع إمبريالي استعماري بغيض، مارس الوحشية ذاتها والإجرام ذاته في الهند الصينية وأفريقيا وكندا وأميركا وأستراليا. لكن، بالرغم من قوة تكنولوجيا الأسلحة الفتاكة التي يستخدمها الجيش الصهيوني وحلفاؤه النازيون في قتل المدنيين العزّل والأطفال في غزة ولبنان، وبالرغم من التضحيات الجسام التي تقدمها قوى المقاومة من مقاتلين وقادة، إلا أن راية المقاومة لن تنهزم. وهذه المعركة التي هندس أبجديتها الراحل أبو إبراهيم ورفاقه الأبطال، معركة «طوفان الأقصى»، هي وإن لم تكن المعركة الأخيرة في هذا الصراع، فهي حتماً ما قبل الأخيرة. تلك المعركة سوف تأخذ موقعها كواحدة من أهم المعارك في تاريخ البشرية، من أجل نيل الحرية والاستقلال. لكن، ينبغي التأكيد هنا أن هذه الحرب هي حرب الاستنزاف، التي تهدف إلى إنهاك العدو وتدمير قواته، وتهجير احتياطه البشري، واستنزاف مقدّراته. غير أن الوقت يتطلب تغيير قواعد الاشتباك، حتى يدفع العدو الثمن الباهظ، وتصبح الحرب في كل حي، وكل شارع، وكل بيت من بيوته، وفي كل مصنع، وكل سوق، حتى دحر الاحتلال. كما ينبغي معاقبة حلفاء الصهاينة النازيين الذين أسهموا في هذه المذابح وزودوا الكيان الصهيوني بآلة الدمار الفتاكة، ليخرجوا مدحورين من منطقتنا.
* كاتب فلسطيني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى