الأغنية سفيرة الأجيال ومؤرّخة المُستقبل
جريدة الأيام- بقلم: د. انتصار الدنان – شاعرة وإعلامية فلسطينية من لبنان
مرّت القصيدة العربية بمراحل عديدة عبر عصور تطورها، بدءًا من القصيدة الموزونة المتعدّدة الموضوعات في العصر الجاهلي، والعصور التي تلته.. مع تنوّع الموضوعات المطروحة، بحسب الغاية والهدف، وصولًا إلى الأندلس وانتشار المُوَشّحات، إلى المَحكية، وصولًا إلى يومنا هذا الذي يشهد نوعًا من القصائد الهابطة التي لا تهدف إلا إلى الاستثمار الاقتصادي. وعليه فقد تراجعت القصيدة العربية المُغنّاة، وطبعًا ذلك وفقًا لتعدّد اللّهجات المحكية التي تتناسب مع العامّة، فانتشرت القصائد باللهجات العاميّة والقوالب الشعبيّة.
تطورت القصيدة العربية من العصر الجاهلي الذي مهّد للشعر العربي وكان على درجة عالية من البلاغة والقيمة الفنية، حيث تناول موضوعات متنوِّعة تتناسب والبيئة التي ظهر فيها، مثل: الحب، الحروب، الشجاعة، مرورًا بالعصر الإسلامي الذي انحازت فيه القصيدة إلى الدين والحضارة الإسلامية، وصولًا إلى العصر العباسي حيث اهتمَّت القصيدةُ بالفلسفة والأخلاق، والأدب والعلوم، وكل ذلك بلسان عربي فصيح، إلى أن كان الشعر الأندلسي الذي تميّز بظهور نوع جديد للشعر، وهو المُوشَّحات، الذي تضمَّنَت خرجته مفردات أعجمية.
وقد ساعد في ازدهار الشعر في الأندلس، إضافة إلى الطّبيعة الحيّة، تلك الحياة اللّاهية التي عاشها الشعراء نتيجة للتحرّر الاجتماعي، وكان الشاعر يعتبر الطبيعة مرتعًا لإحساسه، وانطلاقًا منها لشعره. وقد عكف الشاعر الأندلسي على تصوير حياة اللّهو والمجون في أجواء الطبيعة، مقدِّمًا لنا لوحاتٍ من التّعبير والأصباغ لتتلاءم مع العصر، إلى القصيدة في العصر الحديث التي عرفت أنماطًا جديدة كشعر الحرية والثورة والحركة الوطنية، وفي كل مرحلة أبدع الشعراء وأثّروا في الثقافة والتاريخ.
القصائد المُغنّاة هي تلك القصائد التي اندمجت مع الموسيقى وصارت أغان، وهذا النوع انتشر منذ العصر الجاهلي ومازال إلى اليوم، لكنه مر بمراحل عديدة حيث كان المغنون ينتقون القصيدة التي تساهم في الرقي ورفع الحضارة العربية، وتمتاز هذه القصائد بأنها تجمع بين فن الشعر واللحن، وقد أثّرت بشكل كبير في الثقافة، وربطت بين الشعر والموسيقى بطريقة جميلة ومؤثرة.
في عصرنا الحديث، غنّى مطربون كبار للشعراء: محمود درويش، نزار قباني، سميح القاسم، وغيرهم من الشعراء الذين كانت قصائدهم تؤدّي الغرض الغنائي وهي مكتملة المحتوى، من المفردة إلى الصياغة والبلاغة، ولم يكن الشاعر يكتب للتكسُّب المادي، أو حتى تُغنّى كلمات قصائده، فالشاعر يكتب من أجل التعبير عن الواقع المجتمعي الذي يعيشه في بيئته ومحيطه، مستخدمًا حسّه المرهف، ورصد ألوان البيان والتشبيه والاستعارة، من أجل إيصال فكرة معيّنة.. وهذه القصائد تتناغم مع نغمات عذبة وموسيقى رنّانة، تتناسب مع شعره..
وعليه، فإن القصيدة العربية تحمل مساهمات كبيرة في الثقافة، وهذا يتجلّى في عدة جوانب، التعبير والتأثير، التراث والهوية الجمالية والإلهام تؤثر في الجمهور، وتحفّز على التفكير والنقاش، وهذا يساهم في بناء الهوية الوطنية واللغوية، وتحمل القصائد تراثًا ثقافيًا غنيًّا يمتد لآلاف السنين، وعليه، فالقصيدة جزء أساسيّ من الثقافة العربية وتسهم في تشكيلها وتطويرها.
وعليه، كانت القصيدة العربية ومازالت سفيرة شعبها، تؤرِّخ لثقافته، من عادات وتقاليد، ولهجات، وديانات، ولباس، وغيرها، وهذا ما نحتاجه، لخدمة الأغنية، لكن القصيدة العربية المحكية تحديدًا التي تعتمد على التكرار هبط مستواها خدمةً للتكسُّب الاقتصادي، إذ إنه نعرف بتراثنا أنّ الأغنية السريعة الإيقاع، التي تحمل تكرارًا للمفردات، وذلك باللهجة المحكية، تنتشر بسرعة، لكنها في الوقت نفسه تخبو بسرعة نظرًا لعدم تماسكها من جوانبها كافة، كالكلمات، والإيقاع، والمغزى، وهذا النوع من القصائد لا يخدم التراث والهوية الثقافية، ولا تؤرّخ للمستقبل.