عملية الوعد الصادق وآفاق المواجهة
العهد
منذ بداية معركة عملية “طوفان الأقصى”، زادت وتيرة الاستهداف الإسرائيلي للأراضي السورية. ونفذ العدوّ الإسرائيلي خلال ستة أشهر، بين تشرين الأول/ أكتوبر ومطلع نيسان/ أبريل، أكثر من 40 هجومًا في سورية، وقد امتد ذلك إلى مواقع للجيش العربي السوري والقوى الحليفة له بهدف توسيع نطاق المواجهة في الإقليم، وإقحام الولايات المتحدة الأميركية في حرب مباشرة ضدّ إيران وحلفائها في المنطقة. وسعت “إسرائيل” من وراء العدوان الذي نفّذته ضدّ القنصلية الإيرانية، في دمشق، لـ “حشر” إيران “في الزاوية”، فإن اختارت عدم الرد مباشرةً فإنّ ذلك يؤثر عليها داخليًّا، ويهز صورتها أمام حلفائها. وإن اختارت الرد، فإنها تخاطر بالتورط في حرب، وهو الموقف نفسه الذي وضع الإسرائيليون أنفسهم فيه بعد الرد الإيراني المتمثل في عملية الوعد الصادق.
وقد بيّنت تلك العملية أنّ كيان الاحتلال غير قادر على إحباط هجمات إيرانية بالفعالية التي شهدتها المنطقة في تلك الليلة من دون دعمِ دولٍ حليفة غربية وإقليمية، كما بيّنت وجود أنظمة عربية مستعدة للتعاون علنًا مع كيان الاحتلال لإحباط هجمات إيرانية على الكيان، وقد لا يكون هذا الأمر منعطفًا في حد ذاته، ولكنه أوضحُ تعبيرٍ عن حصول مثل هذا المنعطف تدريجيًا في العقد الأخير. وقد بيّنت المواجهة، أيضًا، أن لدى إيران قدرة على الوصول إلى كلّ الأراضي الفلسطينية المحتلة والتصويب على أهداف محدّدة، وأنّ الضرر كان يمكن أن يكون أكبر لو أنّ الضربة كانت فورية؛ على نحو لا يتيح للإسرائيليين إلّا ساعات قليلة للتصدي لها.
وكشفت عملية الوعد الصادق أن الرد الإيراني غير المسبوق على الجريمة الصهيونية في قصف القنصلية الإيرانية في دمشق، أدى إلى تغيير في المعادلات وفرض قواعد اشتباك جديدة، إضافة لكشف عدم قدرة الكيان على البقاء دون الدعم الأميركي والغربي، أمام أول هجوم مباشر نفذته إيران ليلة 13 – 14 نيسان 2024 والذي تضمن إطلاق نحو 170 طائرة مسيّرة و30 صاروخ كروز مجنحًا و120 صاروخًا باليستيًا أصاب عدد منها قاعدة نيفاتيم في صحراء النقب التي انطلقت منها الطائرات الحربية الإسرائيلية التي استهدفت القنصلية الإيرانية في دمشق بتاريخ 1/4/2024 واستشهد فيها عدد من قادة الحرس الثوري.
وقد عبر الرد عن إرادة وجرأة وشجاعة وثقة بقدرة إيران على المواجهة وتحدي قوى الاستكبار والصهيونية وجبروتها.
وعزز الرد الإيراني موقف المقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني الصامد، وأكد لهما أنهما يستندان إلى قوة إقليمية حقيقية تجسدها إيران التي أثبتت وقوفها إلى جانب الشعب الفلسطيني ومقاومته قولًا وفعلًا وبكل الإمكانيات، كما أن الرد شكل انتقالًا من مرحلة الصبر الاستراتيجي إلى مرحلة الرد والردع الاستراتيجي، ودخلت المنطقة مرحلة جديدة وانعطافة في تاريخ الصراع بين قوى المقاومة وكيان الاحتلال، ولا يمكن النظر إلى عملية الوعد الصادق بأنها مجرد حدث عابر، بل إن تأثيراتها ستنعكس على مجمل البنية الأمنية في المنطقة.
وقد حسنت عملية الوعد الصادق ميزان القوى الإقليمي لمصلحة كلّ المنخرطين في مشروع المقاومة وأصبح الاحتلال يعيش هزيمة محققة أمام صمود وبطولة الشعب الفلسطيني ومقاومته في قطاع غزّة وفشل كلّ أهداف الحرب ومنها تغيير الشرق الأوسط وفرض الهيمنة الإسرائيلية عليه حيث تشير الوقائع إلى تراجع في قدرات الكيان وتدهور منظومة الردع والمكانة الإقليمية لكيان الاحتلال.
كما أثبتت عملية الوعد الصادق عمق الارتباط العضوي لأمن الكيان بالمنظومة العسكرية الأميركية التي تشمل أيضًا قوى دولية وإقليمية وعربية، وقد ساهمت هذه المنظومة في الحد من نتائج العملية نسبيًا، وأظهرت التبعية الكاملة لهذه القوى للإدارة الأميركية.
وبعد إنجاز عملية الوعد الصادق والرد الإسرائيلي الهزيل والضعيف لم تتراجع احتمالات نشوب حرب في المنطقة، تقول الإدارة الأميركية أنها لا تريدها بينما تظهر إيران بشكل نظري وعملي الاستعداد الكلي لها بحال وقوعها.
وأصبح بإمكان إيران بعد هجوم 14 نيسان/أبريل أن تحقق جملة أهداف مرحلية ذات مفاعيل استراتيجية وهي: تعزيز صمود المقاومة الفلسطينية، وتحسين شروطها في المفاوضات، وإضعاف الردع الإسرائيلي بما يعقّد الخيارات الإسرائيلية في استهداف المصالح الإيرانية، والمس بهيبة الكيان المفترضة، واجتذاب كتل اجتماعية جديدة إلى جانب قضية الشعب الفلسطيني، وتقوية مشروعية خيار المقاومة، وإعادة تثبيت الصراع مع العدوّ باعتباره مركز الأزمات في المنطقة، وإظهار الولايات المتحدة في وضعية متراجعة لا يمكن الاعتماد عليها، ودفع حلفاء واشنطن إلى وضعية حذرة في ما يخص المشاركة في أنشطة أميركية عدوانية.
من هنا يمكن القول إن مرحلة ما بعد7 تشرين الأول/ أكتوبر ما زالت قيد التبلور، ولذا من المرجح أن تواصل القوى الأساسية في المنطقة ممارسة نفوذها للتأثير في شكل النظام الإقليمي وتوازناته المقبلة. وفي ما تبدو جملة من هذه القوى فاقدة للمبادرة أو مستتبعة للمبادرة الأميركية، فإن محور المقاومة وفي مقدمته الجمهورية الإسلامية الإيرانية، يبرز كقوة مستقلة، ومقتدرة، ومبادِرة، ومشارِكة في صناعة المعادلات والمعايير والمفاهيم للمرحلة الجديدة التي يُرجى أن تتوافر فيها شروط أفضل لانتصار غزّة الذي يخدم المنطقة على صعيد الاستقلال والاستقرار والتعاون والتنمية.
تقدير موقف لقسم الدراسات المركزي في “الجبهة الشعبية – القيادة العامة”