مقالات

زمن السيّد

الأخبار- *علي زيدان

سَيَذْكُرُنِي قَوْمِي إِذَا جَدَّ جِدُّهموفِي اللَّيْلَةِ الظَلْمَاءِ يُفْتَقَدُ الْبَدْرُ

أمس ليس كاليوم. ومساء الجمعة 27 أيلول/ سبتمبر 2024، صار نقطة تحول في تاريخ المنطقة، وأزمنتها. بيروت لم تعد مختلفة عن غزة، فالعدو واحد، وأدوات الإبادة واحدة. والعرب المعاصرون، لم يتغيروا منذ ما قبل السابع من تشرين الأول / أوكتوبر 2023 حتى اليوم. ما زالوا كما عهدناهم منذ زمن. ما زالو يترقبون فرص هلاك ثيرانهم البيض والسود على حد سواء، الواحد تلو الآخر. فماذا تغير بين اليوم والأمس؟
منذ نحو عام، والكيان الصهيوني يهاجم قطاع غزة من البر والبحر والجو، ويفرض حصاراً شاملاً ويمنع دخول المساعدات الإنسانية، كما يمنع الدواء والوقود، ويستخدم التجويع كسلاح حرب. وكانت الحكومات العربية طوال هذه المدة في غيبوبة شاملة، وكأن الأحداث تدور على كوكب بعيد. لم تتحرك أي من الدول العربية لتقول: لا لحرب الإبادة. أو لتقول علناً: أوقفوا المجزرة اليومية. ولم تتداعَ تلك الحكومات للتلويح بسلاح النفط مثلاً، أو بسحب السفراء الصهاينة، أو بإقفال سفارات الكيان المجرم في عواصمها العربية. والبعض لم يوقف مفاوضات التطبيع الواسعة، والالتحاق بالاتفاقيات الإبراهيمية. غير أن هذا الظلام الحالك، والليل البهيم، طل عبره السيد حسن نصرالله، وقال: لا للمجازر الوحشية، لا لحرب الإبادة. وما يجري اليوم في غزة، سوف ينتقل إلينا قريباً.
منذ أن بدأت الحرب، والسيد لم يتوقف عن مساندة المقاومة الباسلة في قطاع غزة ضد الاحتلال الصهيوني النازي، ولم يتراجع عن موقفه رغم الوفود والوعود. كثيرون اتخذوا مواقف من سياسة السيد، من أقصى الشمال إلى أقصى اليمين. ولم يأبه، ولم يتراجع قيد أنملة. ثم اشتدت المناوشات الحربية مع الكيان المدعوم من تحالف قوى الشر بقيادة الولايات المتحدة الأميركية وحليفاتها بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وغيرها. غير أن يوم الجمعة 27 أيلول / سبتمبر كان يوماً لا يشبه بقية الأيام. كان يوماً حزيناً وقاسياً، إذ ترجل الفارس عن صهوة قيادته، إثر غارة جوية غير مسبوقة في لبنان. تماماً مثل الغارات الوحشية التي يقوم بها الكيان الصهيوني في قطاع غزة لإبادة الفلسطينيين وتهجيرهم من بلادهم. قامت الطائرات الأميركية الصنع بإلقاء قنابل لاختراق التحصينات والأنفاق تحت الأرض. وقد استُعملت بكثرة في غزة وبدعم مطلق من الإدارة الأميركية. لقد فشلت تلك القنابل، رغم دقتها وذكائها، من تدمير تحصينات المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، إلا أنها نجحت بقوة في تدمير المستشفيات ومراكز الإيواء والمباني السكنية. وهذا أيضاً ما قامت به في بيروت. إذ تم استهداف منطقة سكنية بخمس وثمانين قنبلة زنة 900 كلغ خلال دقائق قليلة أدت إلى تدمير شامل لستة مبانٍ سكنية، واستشهاد السيد حسن من شدة الانفجار. هذا النوع من القذائف يتميز بقدرته على اختراق غطاء معدني بسماكة 38 سم، أو سقف من الخرسانة المسلحة بسماكة 3,4 أمتار، بينما تغطي شظاياها القاتلة دائرة نصف قطرها نحو 366 متراً.

استشهد السيد حسن، مالئ الدنيا وشاغل الناس، ومرعب العدو. استشهد السيد وهو في قمة تألقه وعنفوانه وتمسكه بوحدة الساحات وبالدفاع عن فلسطين. لقد أسهم السيد حسن بإرساء قواعد جديدة لمقاومة العدو. وصاغ تحالفات جديدة ومفاهيم جديدة في وحدة محور المقاومة ضد العدو الصهيوني وحلفائه. ظلت خطاباته، التي كان الجميع ينتظرونها، تربك أركان محور الشر، وتعطي آمالاً جديدة للاجئين والمقهورين بقرب النصر وزوال الاحتلال. لقد تميز السيد بشخصية جذابة وكاريزما غير عادية، وقدرات خطابية مؤثرة. وأكثر من ذلك، كان متواضعاً، وزاهداً، وصادقاً. يصدقه العدو قبل الصديق، وربما الحليف. استشهد ابنه في القتال مع زملائه، ومن دون تمييز. وظل وفياً، حتى استشهاده، للمبادئ السياسية التي رفعها دون مساومة، وظل وفياً للقدس وفلسطين. في المدة الأخيرة، اشتدت وحشية الكيان الصهيوني وإجرامه في اغتيال عدد من القادة الكبار من رفاق السيد حسن، وكأنها رسائل تحذيرية له ليتراجع عن مواقفه المعادية للكيان الصهيوني والمساندة للمقاومة في غزة والضفة. لكنه ربط أي وقف للنار بوقفه في غزة أولاً. لكن، كيف تسلل هذا العدو المجرم إلى هذه الحلقات الضيقة؟ ومن أي باب؟ ستكشف الأيام القادمات هذا الغموض. غير أن هذه المواقف الصلبة غير معتادة في البلاد العربية. ومنذ وفاة الزعيم الكبير جمال عبد الناصر، تفرّق العرب أيدي سبأ. وأصبح كل بلد هو أولاً، والباقي إلى الجحيم. وصار كل بلد يربط نفسه بمواثيق ومعاهدات سلام مع الكيان الصهيوني، حتى الدول التي لم تحارب يوماً، عقدت اتفاقيات منافية للقومية والدين. والبعض أسهم في حماية الكيان المجرم، مقتدياً بأبي رغال ورهطه.
وتخلى الجميع عن القضية القومية الأولى، وتركوا المسجد الأقصى وقبة الصخرة عرضة لهجمات العصابات اليهودية المتطرفة التي تسعى إلى بناء هيكلها المزعوم، مرددين أن للبيت رب يحميه. غير أن السيد وقف بالمرصاد، وقال إنه لن يتراجع، منذ نحو ثلاثة عقود. اليوم، لم يعد السيد موجوداً. وهكذا تحول الزمن بسرعة غير متوقعة. زمن مضى رسمه السيد بخطاباته، وما زال واضحاً، واضحاً. وزمن قادم، رسمه السيد بدمائه، ويحمل بشائر النصر. غياب السيد في هذا الوقت كان موجعاً، وخسارة جسيمة، إلا أنها لن تعني تراجع المقاومة. لقد اغتالوا تشي غيفارا في غابات بوليفيا، وتخلصوا من جمال عبد الناصر بالسم. وكذلك وديع حداد وياسر عرفات. واغتالوا أبا علي مصطفى بطائرة الأباتشي التي استخدموها في اغتيال أحمد ياسين والسيد عباس سلف السيد حسن، وغيرهم من القادة. إلا أن الثوريين لا يموتون، كما يقال. وأن جذوة المقاومة لا تنطفئ، والثورة لا تموت. لقد نما جيل كامل على صوت السيد حسن، ومبادئه وصدقه، حتى تحوّل هذا الزمن، وصار يحمل اسمه.
وهذا أوان الشد، فاشتدي زيم.
* كاتب فلسطيني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى