آراء

محكمة العدل: لماذا جنوب أفريقيا وليس دولة عربية؟

المكتب الإعلامي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في لبنان- حاتم استنبولي

انعقدت جلسة المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، للنظر بالدعوى المقدمة من دولة جنوب أفريقيا ضد “إسرائيل” دولة الاحتلال الإحلالي لِفلسطين .

بعد مئة وخمسة أيام و 24.620شهيدًا و61.830 جريحًا، والآلاف من المفقودين، من مواطني غزة الفلسطينيين، وبعد خمسة عشر عامًا من الحصار البري والبحري والجوي، تخللته جولات من الاعتداءات العدوانية الإسرائيلية، استخدمت خلالها سياسة منهجية لتدمير- (جز العشب حسب المصطلحات العسكرية) -القدرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، هي قدرات لإبقاء غزة  ومواطنيها في غرفة الإنعاش تحت رقابة دقيقة مكثفة برًا وبحرًا وجوًا.

رغم كل هذا الهول من التعذيب، والتدمير، والقتل، والضغط، والمراقبة، والملاحقة، والتعذيب المباشر وغير المباشر، كان الفلسطينيون خاصة مواطنو غزة يواجهونها بِإمكانياتهم المتواضعة، يستيقظون كل صباح، يذهب اطفالهم الى المدارس والجامعات، ورجالهم إلى أعمالهم، ونساؤهم يمارسن أمومتهن وإنسانيتهن، ليؤمِنَ لاطفالِهِنَ وأُسَرِهِنَ الحد الأدنى من ظروف نفسية، ورعاية أسرية، استمر الفلسطينيون خاصة أهل غزة صمودهم وتصديهم لآلة القتل اليومي العدواني الإسرائيلية.

لكن هذا العدوان الهمجي البربري المستمر منذ أكثر من ١٠٠ يوم على غزة كان له شكل وأسلوب وهدف مختلف عن كل الاعتداءات السابقة، حيث كان واضحًا منذ اليوم الأول للعدوان أن الهدف الجوهري للعدوان هو إعادة إنتاج جريمة النكبة الفلسطينية  عبر التوضيح عن نفسه بالتصريحات، والقرارات الحكومية السياسية والعسكرية والاقتصادية الواضحة والمعلنة عن خططها ضد الشعب الفلسطيني، التي طالبته بالخروج من أرضه ووطنه أو مواجهة التجويع والتعطيش والقتل والتدمير الشامل، لإنهاء كل امكانيات العيش الإنساني الحضاري في قطاع غزة .

السؤال الأول: الذي يفرض نفسه، لماذا دولة جنوب أفريقيا قامت بتقديم الدعوى متحدية كل المنظومة السياسية الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة؟

السؤال الثاني :

لماذا لم تقم دول عربية مثل الأردن أو مصر في تقديم دعوى مماثلة لدولة جنوب أفريقيا، وهي في الجوهر عانت من آثار العدوان الدائم على الشعب الفلسطيني، الذي كان يخضع للإدارة السياسية والقانونية والاقتصادية لكل من الأردن ومصر؟

السؤال الثالث:

لماذا لم تبادر الجامعة العربية بأخذها كأداة سياسية جامعة للموقف الرسمي العربي ؟

دولة جنوب أفريقيا قدمت هذه الدعوة بناء على عدة أبعاد، أهمها: أنها دولة ناضل شَعبَها لعقود طويلة من أجل نيل حريته من النظام الفاشي العنصري، الذي كان مدعوما من بريطانيا العظمى، ودولة إسرائيل  التي كانت تقيم أعمق العلاقات مع نظام الفصل العنصري.  هذا النظام الذي كان يمارس أبشع الجرائم ضد شعب جنوب أفريقيا بالضبط، مثلما تمارس إسرائيل الإحلالية قَمعَها و قتلها و مصادرة  الأملاك وهدم البيوت والفصل العنصري.

دولة جنوب أفريقيا تدرك عبر التجربة  النضالية لشعبها مدى الظلم الذي يقع على الشعب الفلسطيني، ويذكرها بالظلم الذي وقع على شعبها من المنظومة الرسمية الرأسمالية، التي كانت تمارس الظلم والسرقة لمقدرات الدولة. إن أهم تجارة كانت تمارس سرا وعلنًا هي سرقة المقدرات الباطنية لجنوب أفريقيا من الذهب والمال عبر تجار إسرائيليين، كانت تمر تجارتهم عبر بورصة تل أبيب للألماس، بحماية من حكومة إسرائيل. هذه التجارة التي كانت تدر مئات الملايين على الخزينة الإسرائيلية، لهذا فإن العلاقة بين نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا هو يشبه النظام العنصري في إسرائيل الإحلالية، بل إن إسرائيل قد تجاوز به، في ارتكاب المجازر والإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني.

قوى الحرية في جنوب أفريقيا حققت العدالة الإنسانية لشعبها، وهي تدرك أهمية استخدام الوسائل القانونية الأممية لمحاصرة نظام الفصل العنصري في فلسطين، الذي له طابع إحلالي. هذا الطابع الذي يحمل بجوهره الصفة الإرهابية، لأنه يمارس عبر التاريخ إبادة منهجية لكل الجوانب الحقوقية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية للشعب الفلسطيني.

الصفة الإحلالية هذه يشترك فيها  النظام الصهيوني الإحلالي مع الشكل التاريخي لنظم كل من الولايات المتحدة وكندا وأوستراليا، وممارسات بريطانيا العظمى في دول المستعمرات. هذه الصفة بجوهرها تحمل صفة الإبادة الجماعية للتاريخ والثقافة والهوية، والحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية، وبشكلها الفج تمارس العمليات العسكرية المباشرة لقتل المدنيين لمحو آثار نقيضها التاريخي الشاهد على جرائمهم .

تحقيق العدالة الإنسانية تمارسه حكومة جنوب أفريقيا عن قناعة، وفهم، وتطبيق عميق لجوهر العدالة والمساواة، والحرية والديمقراطية في تصحيح المفهوم الذي ساد بعد انتصار المفهوم الصهيوني للعدالة، الذي اعتبر أن كل قوى الحرية والتحرر الوطني هي قوى إرهابية خاضعة لمعيار وناظم المفهوم الرأسمالي للعدالة التي خصصت فقط للمليار .

أما عن الدول العربية فإن وقوفها موقف الحياد الإيجابي يكمن أن معظم نظمها الفاعلة والمؤثرة في المنظمة الرسمية العربية هي نظم لا تؤمن بالعدالة الإنسانية، وهي تستخدم قوانين العدالة بما يتوافق مع مصالحها الفئوية والعائلية، التي تؤمن إخضاعها لشعوبها، وهي تتلاقى مع صفة الجوهر المعادي للعدالة الإنسانية لإسرائيل الإحلالية.

نظم لا تملك صفة العدالة كيف يمكنها أن تواجه إسرائيل التي تذكرهم بأنهم نظم غير ديمقراطية، ونظم مارست القتل بكل أشكاله في اليمن وسوريا، وغطت جرائم واشنطن في العراق وأفغانستان.

أما عن إيجابية الحياد (الموقف اللفظي واتخاذ قرارات حبرًا على ورق)، فهو موجه فقط لجماهيرها لتغطية عجزها وتبعيتها.

نظم تستقبل القتلة، وتسمع لهم وتُقايِضَهم على سكوتها لتحقيق مكاسب مادية لبعضها الذي يعاني من مديونيات وأخرى من أجل السكوت عن ممارساتهم العدوانية داخل وخارج دولهم.

أي مدقق في الصورة العامة للإمكانيات العربية الجمعية إن كانت بشرية أو اقتصادية او عسكرية او جيوسياسية، يدرك أنها قوة لا يمكن الاستهانة بها، فهي تتحكم بأوجه قوة فاعلة، ومتحكمة بالاقتصاد العالمي المالي فقط الموقف الصادق لصنعاء الفقيرة، ولكنها أغنى دولة عربية في الوطنية والإنسانية والعروبة، ومناصرة الحق الفلسطيني. هذا الموقف الميداني وضع كل العواصم الغربية في موقف يفكر ويسارع في إيجاد مخارج لوقف العدوان على غزة والضفة.

موقف دولة جنوب أفريقيا وضعت مفهوم تحقيق العدالة الإنسانية على السكة الصحيحة، وكشف أن المشكلة ليست في جوهر العدالة التي هي عدالة للجميع، بغض النظر عن لونهم وجنسهم و قوميتهم ودينهم، هي عدالة لا تملك معايير خاصة لتطبيقها حيثما تطلب ذلك.

العدوان المستمر على غزة  كان له طابع خاص يتميز بسمة الإبادة الجماعية للبشر، والحجر، والبيئة بكل أوجهها فرض إيقاعه شعبيا عالميا لمواجهته بحيث أصبحت كل الشعوب في كل بقاع العالم تدرك أن قضية فلسطين هي قضيتها، لأنها أدركت مدى خطورة النظم العالمية التي تتحكم فيها الصهيونية العالمية التي هي خطر داهم على كل الشعوب في العالم، وكشفت زيف ادعاءات حكوماتها التي سارعت لمد المعتدي الصهيوني في فلسطين بالدعم اللا محدود سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وتوافد زعماؤها لتقديم ولائهم لصهيونِيتَهَم.

العدوان المستمر على غزة عكس بالملموس ما جرى بالنكبة الفلسطينية عام ١٩٤٨، وكشف الأكاذيب التي سوقتها الصهيونية وأتباعها بأن الفلسطينيين باعوا أرضهم. ما يجري في غزة ومخيماتها أكد بالملموس مدى إصرار تمسك الشعب الفلسطيني بأرضه ووطنه وقضيته، وإن المتآمرين على قضيته هم أبناء وأحفاد من تآمروا على الشعب الفلسطيني في جريمة النكبة التي كانت مفتاحًا لبوابة الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، التي اتسمت بإلغاء الهوية، والحصار، والمنع من العمل والسفر، والإلحاق، وتجريف الذاكرة، وتشريع قتل الفلسطيني وتهجيره وملاحقته، التي حولت العدو إلى صديق والفلسطيني إلى إرهابي.

العدالة الحقوقية الإنسانية هي المطلب الأول لكل فلسطيني وطني تحرري،  وليست الدولة المشروطة.

 تحقيق هذه العدالة هي المدخل لحرية الإنسان الفلسطيني في اختيار مستقبله السياسي والاقتصادي والثقافي، وتحديد طابع وشكل دولته ونظامه حرية غير مشروطة بقبول الظلم والعدوان والمحتل.

عدالة إنسانية تحقق أولا عدالة المخيم الفلسطيني، التي كانت وما زالت هي عنوان البوابة الأول لغيابها.

إن الثمن الذي قدم في غزة يجب ألا يكون أقل من الحرية الكاملة لشعبنا، وإن أي استثمار في الدم الفلسطيني من قبل النظام الرسمي لاستمرار التطبيع، وقبول إسرائيل العدوانية يجب أن يواجه شعبيا بشكل حاسم، وإن أي قبول لصرف فاتورة العدوان من قبل النظام الرسمي العربي هو في الجوهر مشاركة في جريمة العدوان على غزة والشعب الفلسطيني.

هذه الجرائم و فاتورتها يجب أن تدفعها كل إسرائيل العدوانية، وواشنطن، ولندن، وبرلين، وباريس منظومة العدوان المستمر والدائم على الشعب الفلسطيني، والشعوب العربية منذ  أكثر من مائة عام.

دعوى جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية رفعتها وأوصلتها أقدام الجماهير التي كانت تدق الأرض لإيقاظ شعوب العالم من الخطر الداهم على منظومة العدالة الإنسانية، التي تواجه خطر تفشي الصهاينة في مؤسسات الحكم  في العواصم الفاعلة في المنظومة الدولية كافة، إن كانت سياسية أو اقتصادية أو إعلامية، التي تمارس تغطية منهجية مضللة تشرع جرائم الإبادة التي ترتكب ضد الشعب الفلسطيني في غزة والضفة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى