آراء

غزة وطرق الأبواب… نحو الوطن والرغيف

الأخبار- حمزة البشتاوي

لم تستطع الحروب، ولا الحصار ولا التجويع، قتل الروح الفدائية الفلسطينية. فلا يزال «الفدائي» يقبض على جمر الفكرة والثورة والرسالة والبوصلة نحو فلسطين. وها هو الفدائي الفلسطيني يقدّم نماذج حية، لفعل البطولة وتحدّي الصعاب، من المسافة صفر. ومن كل المسافات في تاريخ الثورة، التي عبرت منها الدوريات القتالية الأنهر والوديان والدروب الوعرة في الجبال، معتمداً حرب العصابات والعمليات النوعية التي كتب من خلالها ملاحم الصمود والمقاومة. واكب الفنانون والأدباء درب الفدائيين المستمر والطويل، فكتبوا القصص والأغاني والأناشيد عن بعضهم، فتخلّدت أسماء وقصص أبطال من العمل الفدائي، المجبولين باتساع الوعي، وبالتجربة الفذّة المستندة إلى المشروع الوطني الفلسطيني. وقد أعطوا تلك القصص والحكايات مكانتها الأدبية والمعنوية، بما يرسّخ القيم والشخصيات الوطنية والفدائية التي تمتلك الإرادة والعزيمة والتصميم، وتصنع المعجزات دفاعاً عن الأرض والإنسان.
وأحد هؤلاء الأبطال بشير طقاطقة، ابن بلدة بيت فجّار في بيت لحم، واسمه الحركي بلال، تعود قصته إلى النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي، إذ كان يشارك في الدوريات التي تخرج لتنفيذ عمليات فدائية في الضفة الغربية، فعاش مطارداً في الجبال إلى أن قرّر في يوم من الأيام التوجه إلى منزله في البلدة لرؤية أمه، وكان قد وصلها خبر استشهاده في غارة إسرائيلية على قلعة شقيف في جنوب لبنان، فأقامت له بيت عزاء لثلاثة أيام.
ومع وصول بلال إلى منزله، طرق الباب، فردّت والدته: مين؟
فقال: أنا بلال.
فردّت الأم: انقلع، بلال استشهد. ظناً منها أن جيش الاحتلال ينصب لها كميناً ليكتشف من يتعاون مع الفدائيين ويُؤويهم.
عندها توجّه بلال إلى الجيران وأخذهم معه ليشرحوا لأمه من هو، فتحت الباب وقبّلت بندقيته (الكلاشينكوف) واحتضنتها قبل أن تقبّله وتحتضنه.
بعد رجوع بلال إلى لبنان، التقى مع الفنان والشاعر الفلسطيني الراحل أبو عرب في مدرسة «إسعاد الطفولة» بسوق الغرب الخاصة بأبناء الشهداء، فحكى له الحكاية، وكانت الأغنية الشهيرة «يا يما في دقة ع بابنا» ومن كلماتها:

«يا يما في دقة ع بابنا
يا يما هاي دقة حبابنا
يا يما في دقة قوية
يا يما دقة فدائية
يا يما هدول الغوالي
يا يما طلاب المعالي
يا يما يسهروا الليالي
يا يما تيحرروا ترابنا
يا يما وان أنقطعت رجلي
يا يما بقاتلهم بأيدي
يا يما قنابل ذرية
يما ما بتهز اعصابنا»

وقد بدأها أبو عرب بموال يحكي قصة بلال:
«طرقت الباب جاوب صوت أمي
العوض بسلامتك ماتو الحباب
قلتلها أنا ابنك بلالي
الدهر غدار بفراقك بلالي
قالتلي كان لي بدر عالدنيا بلالي
انكسف بدري وشعاع الضو غاب
يا أمي رحبي وبالبطل وهلي
وصرلي بفرقتك خمسين هلي
قالت دعني قبلو الكلاشن هلي
حمي زندك حبيبي من المصاب
آه يا ويلي آه يا ويلي…»

دقة بلال على باب أمه، كأنها إجابة لسؤال الشهيد غسان كنفاني في روايته «رجال في الشمس» حين سأل أبو الخيزران «لماذا لم يدقّوا جدران الخزان»، وكان يقصد الفلسطينيين الثلاثة الذين كان يهرّبهم من العراق إلى الكويت بحثاً عن الرغيف، وماتوا اختناقاً داخل الصهريج الذي كان يقوده أبو الخيزران.
واليوم يعلو صوت الأبواب التي يطرق عليها أبناء غزة، من دون كلل أو ملل بلا مجيب، سوى الملهاة، والصمت العربي غير المسبوق في التاريخ.
لكنّ الفدائي، وحده، بصفته ابن الأرض والمدينة والبلدة والمخيم، يطرق أبواب الدبابات والجرافات الإسرائيلية بـ عبوات «العمل الفدائي» وقذائف «الياسين 105»، دفاعاً عن الأرض والناس والقضية، في استمرار لحكاية الفدائي الفلسطيني الثائر من النكبة واللجوء وصولاً إلى حلم التحرير والعودة. مع إشارة لافتة من الفدائي الفلسطيني في غزة، إلى أن القضية الفلسطينية اليوم أصبحت تبدأ من الرغيف وصولاً إلى الوطن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى