في تأمّل الرد الإيراني
صمود- موسى جردات
بعد أن أقدمت إيران على التخلي عما أسمته سابقاً الصبر الاستراتيجي، وبدأت بخطوات الردع البنّاء ضد الكيان الصهيوني، عبر الهجوم الصاروخي وعبر الطائرات المسيّرة، تكون الجمهورية الإسلامية قد أنهت مرحلة من مراحل المواجهة مع هذا الكيان وبدأت مرحلة جديدة، بدأت تتّضح ملامحها، وتأخذ أشكالاً جديدة من الصراع.
لكنّ ما يؤرق الكتّاب والمحللين وصنّاع الرأي، وصنّاع القرار في هذه اللحظات، هو شكل المرحلة القادمة من الصراع، وكيف ستتخذ الامور منحاها، مع العلم أنّ الكثيرين يرون أنّ الحرب الكبرى الطاحنة قادمة لا محالة.
عندما أقدمت “إسرائيل” على ضرب القنصلية الإيرانية في دمشق، كانت تريد من هذه الضربة أن ترسل رسالة متعددة الأبعاد، الأولى، كما تدّعي هي، أن تغرق إيران بتحدٍّ غير مسبوق وأن تفهم الجميع أنّ رأس محور المقاومة يمكن أن يُضرب وبدون تردد، وعندما فعلت ذلك، كان بحسبانها أنّ إيران ستتعامل مع الضربة من منطلق أنّها ضربة هامشية تلقّتها دون أن تقوم بأي رد.
والملفت أنّ الكيان الصهيوني بعد الضربة، كان في حالة نشوة غير مسبوقة كأنّه عثر على ضالته في حرب مضى إليها منذ أكثر من ستة أشهر، دون أن يخرج منها بانتصار كاسح كما تمنى، وفي رسم استراتيجية النصر الموهوم، كانت ضربة القنصلية الإيرانية جزءاً لا يتجزأ من تصوره العام للنصر.
ولهذا، سعى من اللحظة الأولى إلى تثبيت معادلة جديدة تقول إنّ لا أحد بمعزل عن دفع الثمن، وإنّ “إسرائيل” قادرة ومقتدرة على إثبات هيمنتها المطلقة على المنطقة بأكملها، وإنّ غزة أصبحت خلفها، وبهذا يحقّق اليمين الصهيوني بزعامة بنيامين نتنياهو ما عجز عنه أسلافه في اليسار الصهيوني منذ عقود، لكنّ الأمر لم يجرِ ولم يحدث وفق الحسبة الصهيونية، فالرد الإيراني غير المسبوق أطاح بالمعادلة الجديدة قبل حدوثها، وفتح الباب على قراءة مجريات الصراع من جديد، فلا الغرب وكيانات التطبيع في المنطقة استطاعت أن تؤمّن شروط تلك المعادلة، ولا القوة الذاتية لكيان الاحتلال أيضا، بعدما اتخذت القيادة السياسية في طهران قرار الرد.
وكل العهر الذي انبرت فيه وسائل الإعلام المتصهينة سواءً كانت غربية أو من قِبل أنظمة التطبيع، لم تستطع رسم تلك الملامح الجديدة المتوهمة، ولم تستطع أن تلحق بركب التحولات في مسار الرد الإيراني ومن معها في حلف المقاومة، لهذا لجأت إلى تسخيف الرد، وتحويله إلى مجرد مسرحية متفق عليها، بين الطرفين، بينما سماء وأرض فلسطين المحتلة كانتا شاهدتين على حضور القرار الإيراني، التسخيف وبناء سردية لا تحاكي العقل ولا بديهيات المنطق، لم يكونا خياراً لدى تلك الوسائل الإعلامية، بل كاشفاً لعمق الأزمة التي تعتري تلك الأنظمة.
فعلى الصعيد الغربي، بات من الواضح أنّ التضامن مع الكيان الصهيوني أصبح مكلفاً لدرجة لا يستطيع البقاء على نفس الوتيرة، فعين الغرب على مضيق هرمز الذي سيُغلق في حال التصعيد، وما له من تبعات على كل بيت في الغرب.
اما أنظمة التطبيع فوصول الصراع إلى هذا المدى، سيضعها أمام لحظة كاشفة لشعوبها، وبالتالي، فإنّها معرضة للانهيار في اي لحظة، سيّما وأنّها لا تملك رؤية خاصة بها وهي مجرد أداة طيّعة في يد الغرب والكيان الصهيوني.
نعم.. هناك مسرح حقيقي على الأرض، ومعادلات الصراع تأخذ شكلاً واحداً فقط، بين قوى التحرر في المنطقة، وبين الكيان الصهيوني وحلفائه الغربيين ولا يوجد محايد في هذا الصراع، لهذا كانت الضربة الإيرانية كاشفة لكل المختبئين بين ثنايا الصراع، فإما أن تكون مع فلسطين ومظلوميتها، وإما أن تكون مع الكيان الصهيوني والغرب، ولا يوجد حلول وسط في تلك المعادلة، والفرز قادم لا محالة.
*كاتب فلسطيني