عبلة سعدات وخالدة جرار ترويان تحريرهما من “قبر” إسرائيلي
العربي الجديد
تروي الأسيرتان الفلسطينيتان المحررتان عبلة سعدات وخالدة جرار ما عاشتاه من عنف نفسي وجسدي في سجون الاحتلال، وخصوصاً في العزل الانفرادي
“قبر مع استمرار القدرة على التنفس”، هكذا تصف الأسيرة المحررة في إطار صفقة التبادل بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي عبلة سعدات، زوجة الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أحمد سعدات، العزل الانفرادي في سجن الدامون لإثني عشر يوماً.
لكن حتى التنفس كان صعباً في العزل بالنسبة للأسيرة المحررة خالدة جرار، عضوة المجلس التشريعي المنحل عن الجبهة الشعبية أيضاً، وخصوصاً مع ارتفاع درجات الحرارة في شهر أغسطس/ آب الماضي في سجن الرملة.
بعد أسبوعين من تحويلها إلى العزل الانفرادي، بعثت جرار برسالة من داخل زنزانتها تقول فيها: “أنا أختنق في زنزانتي، وأنتظر أن تمر الساعات علّي أجد جزيئات أوكسجين لأتنفس وأبقى على قيد الحياة”. تسأل “العربي الجديد” جرار، وسط ازدحام المهنئين في مدينة رام الله وسط الضفة الغربية، عن تلك اللحظة وتلك الكلمات، فتقول: “خلال المرحلة الأولى من السجن، كنت أختنق فعلاً. لا يوجد أي شكل من أشكال التهوئة. الباب حديدي ومغلق بالكامل بلا نافذة. كانت محاولة حتى لحرماني من الأكسجين”.
خرجت جرار في إطار الدفعة الأولى من المرحلة الأولى لصفقة التبادل واتفاق وقف إطلاق النار الأحد الماضي، ضمن 90 أسيرة وأسيراً طفلاً في مقابل ثلاث من النساء المحتجزات لدى المقاومة في غزة. وكانت الهيئة التي خرجت فيها صادمة؛ جسد نحيل، وملامح متعبة، وشعر أبيض، وكأنها نتيجة 160 يوماً من العزل الانفرادي في زنزانة مغلقة، لا تخرج منها سوى 45 دقيقة يومياً، وهي مكبلة اليدين.
تصف جرار في حديثها لـ “العربي الجديد” هذه الأيام الثقيلة، قائلة إنها سياسة مبرمجة الهدف منها العنف الجسدي والنفسي. العزل الانفرادي عادة يستخدم بحق الأسرى وقليلا ما يستخدم بحق الأسيرات. بالإضافة إلى تعرضها هذه المرة لاعتقال طويل نسبياً مقارنة بالاعتقالات السابقة، تعرضت لهذا العزل الذي أخذ بعداً سياسياً. فقد اعتقلت في 26 ديسمبر/ كانون الأول 2023، وحولت إلى الاعتقال الإداري من دون تهمة أو محاكمة، وظل الاحتلال يمدد أوامر الاعتقال لها كلما انتهت إلى أن تحررت في إطار صفقة التبادل. تذكر أن الزنزانة كانت صغيرة جداً، وقدّرت مساحتها بمتر ونصف المتر عرضاً، ومترين طولاً، تفتقد التهوئة بالمطلق، حتى تكاد تعتقد أن ما من أكسجين داخلها.
وما زاد من صعوبة العزل ارتفاع درجات الحرارة والرطوبة في شهر أغسطس/ آب، إلى درجة شعرت أنها داخل فرن. أكثر من ذلك، كان السجانون يتعمدون قطع المياه، وإبقاء الإنارة في الزنزانة لمدة 24 ساعة متواصلة، فيما كانت نوعية الطعام سيئة جداً. وتشير إلى معاملة السجانين والسجانات السيئة. كانوا لا يخرجونها من الزنزانة إلا والقيود بيديها وقدميها والعصبة على عينيها، في محاولة لممارسة كل أشكال العنف الجسدي والنفسي، والاستهداف المعنوي. وتأمل تسليط مزيد من الضوء على ظروف الأسرى والأسيرات الصعبة.
وإلى جانب جرار، كانت سعدات تستقبل المهنئين في رام الله مع ثلاث أسيرات أخريات. تروي لـ “العربي الجديد” صعوبة 12 يوماً من العزل في فترة مبكرة من اعتقالها. تقول إنها تفاجأت بعد أسبوع من الاعتقال الإداري بحقها، باستدعائها إلى عيادة السجن، رغم أنها لم تكن قد طلبت زيارة العيادة، لتفاجأ مرة أخرى بأن الوجهة لم تكن العيادة، بل زنزانة العزل الانفرادي، بعدما قابلها نائب مدير السجن وأخبرها بقرار العزل، وصرخ في وجهها وهددها.
لم تكن سعدات تعرف سبب عزلها بعد أسبوع فقط من اعتقالها. إلا أن مدير السجن أخبرها أنها تعمل على زعزعة أمن السجن، لترد بأنّها لم تتعرف بعد إلى الأسيرات في السجن خلال أسبوع، ولم تحفظ أسماءهن. لكنّه هددها بالبقاء بالعزل حتى نهاية اعتقالها، وكان السجانون يسألونها كل فترة عن العزل مستهزئين بها، وإذا كانت تريد العودة إلى الغرف السجنية. فأخبرتهم أن الأمر سواء بالنسبة إليها. لم يراع الاحتلال الحالة الصحية لسعدات التي تسببت بها عملية اعتقالها، فهي لم تكن تستطيع الاستلقاء عند النوم، وكانت تنام جالسة.
كانت ظروف العزل صعبة جداً. الزنزانة الأولى التي احتجزت فيها كانت بمساحة 180 سنتيمتراً عرضاً ومترين طولاً، وفي داخلها مرحاض، ولا تسع سوى لفرشة ولم تكن قادرة على التحرك فيها. رفضت سعدات في البداية الطعام احتجاجاً على ظروف الزنزانة الصعبة لكونها قذرة ومتسخة، ومرحاضها متسخا. ولم تحصل على غطاء إلا بعد يومين، ثم نقلت إلى زنزانة أكبر قليلاً فيها مكان للاستحمام بخلاف الأولى.
عانت سعدات خلال أيام العزل بسبب الظروف المشددة، وحرمت الخروج من الزنزانة إطلاقاً، حتى الوقت القصير الذي يسمى “الفورة”. بقيت طوال 12 يوماً في زنزانة مغلقة تماماً. انتهى عزل سعدات بتاريخ 6 أكتوبر/ تشرين الأول 2024. فصباح 7 أكتوبر، علمت أن الأسيرات في سجن الدامون تعرضن للقمع منذ الصباح وقد سمت ما حدث “القمعة الكبرى”، إذ بدأ القمع من الساعة الخامسة صباحاً. وأطلق الغاز على غرفتها وغرف أخرى. بعدها، قيدت الأسيرات وعصبت عيونهن، وسحلن إلى ساحة السجن، ليقمن بتأدية السلام الإسرائيلي وهن على الأرض، وسط شتائم بحق فلسطين والشعب الفلسطيني والمقاومة وحركة “حماس”.
تصف سعدات الزنزانة بالقبر، فهي لا تعرف أي شيء خارجها. كانت تدرك فقط أنها على قيد الحياة، في حال زيارة محام مع بعض الأخبار من الخارج.
وعن زوجها أحمد سعدات، تقول إنها لا تملك أية معلومات مؤكدة، ولم تصل إليها أخبار في السجن عن صفقة التبادل. وتقول: “أبو غسان اعتقل منذ 22 عاماً، ومن حقه أن يتحرر ويعيش ويرى أحفاده وأبناءه، كبقية البشر بحرية وكرامة وإنسانية”.
وتعتبر جرار أحد أبرز الرموز السياسية والمجتمعية الفلسطينية، وعملت مديرة لمؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان منذ عام 1994 وحتى عام 2006، إلى حين انتخابها نائبة في المجلس التشريعي الفلسطيني. وعينت بعد ذلك نائبة رئيس مجلس إدارة في مؤسسة الضمير، وكانت مسؤولة عن ملف الأسرى في المجلس التشريعي الفلسطيني، وعضوة في اللجنة الوطنية العليا لمتابعة ملف انضمام فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية. واعتقلت في الأعوام 2015، و2017، و2019، و2023، وفقدت ابنتها سهى التي توفيت وهي في السجن، وحرمت من وداعها عام 2021.
أما سعدات، فكانت قد تعرضت للاعتقال الإداري عام 2003، وللتحقيق عام 1987، فضلاً عن عمليات التنكيل التي تعرضت لها وعائلتها منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتى اليوم. وتعاني مشاكل صحية وتحتاج إلى رعاية ومتابعة صحية، وهو ما لم يراعه الاحتلال.