المكتب الإعلامي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في لبنان
مازال وقع مجزرة صبرا وشاتيلا التي وقعت في الثالث عشر حتى السادس عشر أيلول عام 1982، قائمًا إلى اليوم. المجزرة التي نفذها حزب الكتائب اللبناني وجيش الاحتلال الصهيوني على يد مجموعات اللبنانية، التي راح ضحيتها حوالي 3500 شهيد من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ الآمنين في بيوتهم من فلسطينيين ولبنانيين، وذلك بعد أن خرج الفدائيون من بيروت عبر البحر إلى تونس.
المجزرة حصلت بعد أن طوق جيش لبنان الجنوبي وجيش الاحتلال الصهيوني الذي كان تحت قيادة أرئيل شارون ورفائيل إيتان، وكانت القوات اللبنانية تحت قيادة إيلي حبيقة الكتائبي الذي نفذ المجزرة، وبعد تطويق المخيم دخلت القوات اللبنانية إليه، وبدأت بتنفيذ المجزرة التي هزت العالم آنذاك، حيث استعملت فيها الأسلحة البيضاء والرصاص في عمليات قتل سكان المخيم، وكانت وقتها مهمة الجيش الصهيوني محاصرة المخيم وإنارته ليلًا بالقنابل المضيئة، ومنع هروب أي شخص منه.
محمود كان شاهدًا على تلك المجزرة، الذي خسر فيها أحباء سقطوا في المجزرة، وقال:” عندما وقعت المجزرة كنت في السابعة عشرة من عمري، وعندما حصلت المجزرة التي استمرت ثلاثة أيام كنت برفقة أصدقائي في بيتنا بمخيم شاتيلا، وكنا نسهر مع أبي وأمي ونلعب ورق الشدة. في هذا الوقت راح باب المنزل يطرق بقوة، فتحت الباب فكان أحد أصدقائي في المخيم ويدعى أبو الغضب، قال لي وهو يرتجف:” قوموا بسرعة. اهربوا من المخيم. إنهم يقتلون الناس. حاولت تهدئته وسألته ما الأمر ومن يقتل من؟ فأجابني: لا أعرف، لا أعرف. وذهب مسرعًا”.
يتابع محمود كلامه: “عدت إلى الغرفة وأخبرت الموجودين أن أبا الغضب جنّ، وأنه يركض في الطريق كالمجنون، ويطلب منا أن نهرب من المخيم إذ إنهم يقتلون الناس”.
بعد حوالي عشر دقائق، بدأنا نسمع أصوات إطلاق نار. قررنا التحقّق مما يحدث في الخارج. توجهنا صوب صوت الرصاص. كانت شوارع المخيم خالية من الناس، لا أحد في الطرقات إلا أنا وأبو الرائد وأمجد. بقينا نسير في المخيم إلى أن وصلنا إلى شارع العويني. هناك، تأكدنا أن شيئًا ما يحصل، وتأكدنا بأن هناك مجزرة، فقد كان الناس يهربون مذعورين، ويصرخون: مجزرة.. مجزرة. تركت صديقَيّ، وتوجهت نحو بيتنا لإخراج أهلي من المخيم، وبالفعل رافقتهم عبر طريق حيّ فرحات إلى خارج المخيم، ومن ثم عدت على الرغم من إلحاح أمي بعدم عودتي. لم أجد أصدقائي في المكان حيث تركتهما. رحت أبحث عنهما. عندما وجدتهما، كان أمجد يحمل كلاشينكوف. سألته من أين حصل عليه، فأجاب من مستودع الجبهة العربية. لكنّ كلاشينكوفًا واحدًا لا يكفي، ورحنا نفكّر من أين سنأتي بالسلاح؟ رحنا نبحث، في حين ذهب أمجد مع رشاشه لاستطلاع الوضع في شارع الدوخي، على ألا يتأخر. وبعد حوالي ربع ساعة، عاد من دون سلاحه. كان متعبًا جدًا ويلهث من ذعره، وعندما سألته ما الذي حصل له، قال: رأيتهم وهم يطلقون النار على الناس. حاولت منعهم وظللت أطلق النار عليهم حتى فرغ المخزن من الرصاص. عندها، رميت الكلاشن على الأرض وهربت”.
يضيف: “ولأننا لا نستطيع القيام بأي شيء من دون سلاح، قلنا إن الهرب هو الوسيلة الأفضل. وبالفعل هربنا من المخيم، وكل واحد ذهب بطريق. أنا وصلت إلى الطريق الجديدة”.
ويتابع: “بعد ثلاثة أيام، في اليوم الأخير للمجزرة، كنت واقفًا مع بعض الناس الذين ينتظرون أي خبر من المخيم، لأننا لم نكن نعلم ما الذي حصل.
كان يقف بالقرب مني رجل أشقر يحمل آلة تصوير فوتوغرافية، عرفت لاحقًا أنه صحافي بريطاني، كان شجاعًا، وقال بلهجة عربية ثقيلة:” أنا بدي أروح على المخيم. في حدا منكو بيروح معي؟. لم يجبه أحد، لكنني قلت له:” أنا أذهب معك”.
كان الصحافي يملك دراجة نارية من نوع فيسبا، ركبت خلفه وتوجهنا إلى المخيم. طريق صبرا كان أشبه بصحراء خالية من كل شيء، حتى من القطط. كنا نحن وحدنا نتحرك في الشارع، وبقينا نتقدّم حتى تجاوزنا شارع الحي الغربي لمخيم شاتيلا. وصلنا إلى دكان أبي محمد الدوخي. كانت جثته أول جثة نراها على الأرض، في حين فصل جزء من رجله. رجله كانت مبتورة في الأساس وهو يضع رجلًا صناعية. صدمني المشهد.
في هذا الوقت راح الصحافي يلتقط الصور بعد أن أوقف دراجته النارية، حيث أكملنا جولتنا سيرًا على الأقدام، وبينما كنا نتجول في المخيم وجدنا مجموعة من الأحصنة على الركام وقد قتلت. وبينها، رأينا رَجلًا مقطوع الرأس. علمت لاحقًا بأنه عمي، وقد تعرّفت إلى جثّته زوجته لاحقًا. كنت أنظر إلى المكان بغضب شديد، بينما الصحافي يلتقط الصور.
تابعنا سيرنا حتى وجدنا شاحنة بيك آب صغيرة، وتحتها مجموعة من الأشخاص كانوا قد أعدِموا. أعتقد أنهم كانوا تسعة أشخاص، وبينما كنت أنظر إلى ما حولي والصحافي يلتقط الصور، سمعنا حركة أقدام. التفت إليّ الصحافي، وسأل: شو هاد؟ أجبته بأنه قد يكون الصوت صادرًا عن أناس يهربون. بقينا للحظات، قبل أن نسمع صوت تلقيم سلاح. حينها، خفنا وبدأنا بالركض، وشعرنا بأن المسافة بيننا وبين دراجته النارية كأنها مسافة فاصلة ما بين الموت والحياة، وفور بلوغنا الدراجة النارية، انطلقنا مسرعين. وفي طريقنا، سمعنا بعض الرشقات النارية.
يقول محمود:” الجثث كانت مرمية على جانبي الطرقات، وبعد أن انتهت المجزرة دخل متطوعو اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وراحوا يرشون الكلس فوق الجثث قبل أن يتم نقلها إلى المقابر الجماعية.