أبرزمقالات

حنظلة … الناجي في زمن الإبادة محمد العبد الله *

المكتب الإعلامي للجهة الشعبية لتحرير فلسطين في لبنان

   ” اصعد، فهذي الأرض بيتُ دعارةٍ       فيها البقاءُ معلّقٌ ببغاءِ

     مَنْ لم يمُت بالسيفِ مات بطلقةٍ       من عاش فينا عيشة الشرفاء “

من قصيدة “ما أصعب الكلام …رثاء ناجي العلي” / أحمد مطر

      سبعة وثلاثون عاما انقضت على ذلك اليوم الحزين 29 / 8/ 1987الذي خيم على العقل والروح حين توقف قلب الفدائي المحارب بالريشة والكلمة ” ناجي العلي “، عن الخفقان في أحد مستشفيات ” لندن ” بعد عدة أسابيع على إصابته بالرصاص من مسدس كاتم للصوت أطلقها قاتل عميل بالعاصمة البريطانية يوم 22 / 7 / 1987. 37 يوما في مستشفى ” تشارينغ كروس “، لم يستطيع خلالها الجسد النحيل أن يصمد أكثر، بعد أن فشلت كل الجهود الطبية لإنقاذه.

     نتيجة نكبة عام 1948، ومانتج عنها من مجازر واقتلاع للسكان العرب الفلسطينيين، غادرت عائلة ” ناجي ” بلدته ” الشجرة   – كحال مئات الآلاف الذين أجبروا على الخروج تحت الرصاص والمذابح من فلسطين -. بعد أن نجت العائلة من القتل والمحرقة اليهودية / الصهيونية، عاش ناجي سنوات صعبة وقاسية، حيث استقرت أسرته في مخيم عين الحلوة القريب من مدينة صيدا، وعاش في خيمة لا تزيد مساحتها على 10 أمتار مربعة، وبدأ منذ صغره ” الرسم / الخربشة ” على جدران أبنية المخيم، تعبيرا عن غضبه وألمه من الواقع الذي يعيشه شعبه في المنافي. كما عرفت أولى محاولاته في رسم الكاريكاتير جدران السجون ومراكز التوقيف التي اعتقلته فيها أجهزة الأمن اللبنانية ” الشعبة الثانية ” بسبب نشاطه السياسي في صفوف حركة القوميين العرب 1961.

    في إحدى زيارات الصحفي، الكاتب السياسي، والأديب المبدع غسان كنفاني لمخيم عين الحلوة شاهد بعض رسومه التي أعجبته. يتحدث ناجي عن هذه الحادثة، قائلا: “المرحوم غسان كنفاني هو الذي اكتشفني وقدمني للإعلام، ففي إحدى زياراته لمخيم عين الحلوة وقع على أربعة رسوم لي وضعها تحت إبطه ومضى، وبعد فترة فوجئت بها منشورة في مجلة ” الحرية ” حيث كان يعمل في تلك الفترة “.

  لم يعرف ناجي الاستقرار الدائم في بلد، عاش متنقلا ما بين الكويت وبيروت. عام 1963 سافر إلى الكويت وعمل في مجلة “الطليعة ” الكويتية. عن هذه الفترة نقرأ للكاتب السياسي والباحث، الراحل ” عوني صادق ” شهادته التي قدمها في منتدى الفكر الديمقراطي في عمّان احتفاء بناجي العلي يوم 29 /08/ 2015  : ” أثناء حرب 1967حزيران التحقت كاتبا متطوعا في مجلة (الطليعة) الكويتية، وكانت لسان حال القوميين العرب في الكويت. دخلت المجلة ووجدت فيها ناجي، وكانت المرة الأولى التي ألتقيه فيها على مستوى شخصي. كانت زياراتي للمجلة في تلك الفترة مرة واحدة في الأسبوع أسلم فيها ما كتبت، وأتنقل بين مكاتب المجلة أجالس هذا وأحادث ذاك، ومن ضمنهم بطبيعة الحال ناجي. لقد رافقت ناجي العلي في مواقع العمل لفترة قصيرة، وجمعتنا خارج العمل صداقة قامت أساسا على القناعات المشتركة والموقف السياسي الواحد .ناجي العلي كان يقوم بمهام عديدة في المجلة منها تصميم ما كيت المجلة ورسم غلافيها الأول والثاني، ورسم صفحتين داخليتين والمشاركة في التحرير أحيانا، مؤكدا أنه رآه أكثر من مرة وهو يصنع القهوة لضيوف المجلة”.

مع بداية العام 1974 عمل في جريدة السفير، وقد استمرّ فيها حتى العام 1983. وخلال عدوان كيان الإبادة الصهيوني على لبنان عام 1982 اعتقل ناجي في صيدا عام 1982 وأطلق سراحه قبل التعرف على شخصيته الإعلامية والسياسية.

  أكثر من 10 آلاف لوحة منشورة –بعض الدراسات تتحدث عن 40 ألف لوحة، بينها عشرات الآلاف لم تنشر_ رسمها بالريشة والقلم، الغالبية منها تحمل توقيع “حنظلة ” ، وقد استطاع ناجي أن يحول الريشة التي في يده ، مشرطا لاستئصال الأدران والأورام الخبيثة من جسد الأمة، وأن يجعل من الكلمات القليلة المرافقة لما رسمته الريشة ، طلقات رصاص تتجه نحو الاستعمار والاحتلال والتبعية والمساومات السياسية ونهج الاستسلام والفساد وكل ” الأمراض التنازلية ” التي تتفشى في الحالة السياسية الفلسطينية. لهذا، كانت فلسطين كما يراها ” أنا مع تحرير فلسطين، وفلسطين هنا ليست الضفة الغربية أو غزة، فلسطين بنظري تمتد من المحيط إلى الخليج”.

خلال مسيرته الغنية بالرسم التعبيري / التحريضي، والكلمات، أصدر ثلاثة كتب في الأعوام (1976، 1983، 1985) ضمت مجموعة من رسوماته المختارة، وفي عام 1979 انتخب رئيسا لرابطة الكاريكاتير العربي، واختارته صحيفة “أساهي” اليابانية واحدا من أشهر عشرة رسامي كاريكاتور في العالم، ومنحه الاتحاد الدولي لناشري الصحف جائزة “قلم الحرية الذهبي” في عام 1988، وكان أول رسام كاريكاتير، وأول عربي يحصل عليها.

   في مقابلاته الإعلامية القليلة، لم يتردد ناجي في تقديم ذاته بعبارات بسيطة، واضحة، لا تقبل التأويل:

“أنا لست حياديا، أنا مع الـ ” تحت “، مع اولئك الفقراء البسطاء الذين يكونون دائما عند خط الواجب الأول، أولئك الذين يسكنون تحت سقف الفقر الواطي ولكنهم يقفون عند خط المعركة العالي… أنا شخصيا منحاز لطبقتي، منحاز للفقراء، وأنا لا أغالط روحي ولا أتملق أحدا، القضية واضحة ولا تتحمل الاجتهاد. الفقراء هم الذين يموتون، وهم الذين يسجنون. أنـا متهم بالانحياز، وتلك تهمةٌ لا أنفيهـا. أنـا منحاز لمن هم ” تحت “. لمن هم ضحايا التكذيب وأطنان التضليلات وصنوف القهر والنهب وأحجار السجون والمعتقلات”.

  أما عن رسوماته، يقول ” إن الكاريكاتور يستحسن أن يكون بلا تعليق ليصل إلى مستوى اللغة والتواصل مع أي طرف مهما كانت هويته، وأن يؤدي لتعدد وجهات النظر بين القراء، لكن الكلمة عندي هي نوع من الآذان والصراخ، ووسيلة للتواصل مع الناس وفي بعض الأحيان أشعر بأنني بحاجة إلى الصراخ وإلى تثبيت موقف سياسي واضح كالشمس، فأستعمل التعليق ليصل إلى البسطاء الذين أخصهم بالدرجة الأولى “. وقد كانت شخصيات رسوماته هي المعبرة عن انتمائه وبوصلته. كانت فاطمة، والرجل النحيف؛ الكادح والغلبان والمعتر، والفدائي والشهيد، رموزه البسيطة والمناضلة، في مقابل الرجل المتكرش، وسمسار البندقية، والفاسد.

   أما حنظلة الذي قال عنه صاحبه “وُلِد حنظلة في العاشرة من عمره وسيظل دائما في العاشرة، ففي تلك السن غادر فلسطين وحين يعود حنظلة إلى فلسطين سيكون بعد في العاشرة ثم يبدأ في الكبر بعد ذلك، فقوانين الطبيعة لا تنطبق عليه لأنه استثناء، لأن فقدان الوطن، استثناء… وستصبح الأمور طبيعية حين يعود إلى الوطن…حنظلة وفّي لفلسطين، وهو لن يسمح لي أن أكون غير ذلك، إنه نقطة عرق من جبيني تلسعني إذا جال بخاطري أن أجبن أو أتراجع “.

  أدرك ناجي باكرا، أن موقفه التعبيري بالريشة والكلمة، عن قضايا الإنسان المسحوق والمهمش في نضاله من أجل الكرامة في معاركه ضد الاستغلال والفساد، وعن قضايا التحرر والمقاومة المسلحة في مواجهة الغزو والاستعمار والاقتلاع ودعاة الاستسلام والتنازل عن فلسطين، ستأخذه إلى التهلكة في ظل أنظمة التعبية وقيادات ” المساومة والتفريط “. في إحدى رسوماته، كتب عما يقوله شهيد يحتضر: ” بتعرفي يا فاطمة ليش أنا مبسوط، مش لأني رايح عالجنه، ولا لأني رايح أقابل ربنا، أنا مبسوط بس لأني راح أرتاح من شوفة وجوه هالحكام العرب”.

  في الجانب الفلسطيني، واجه ببسالة وتحد ٍ، كل أساليب الاحتواء والترويض، وحملة التهديد من ” ذوي القربى!!” بحرق أصابع يده بـ ” الأسيد “، قائلا ” يا عمي لو قطعوا أصابع يديّ، سأرسم بأصابع رجليّ ” مضيفا ” أنا مش ممكن أتخلى عن مبادئي ولو على حساب رقبتي “. موضحا رؤيته: “هكذا أفهم الصراع: أن نصلب قاماتنا كالرماح ولا نتعب، الطريق إلى فلسطين ليست بالبعيدة ولا بالقريبة، إنها بمسافة الثورة “.

صباح كل يوم، كان المواطن العربي الذي اعتاد شراء الصحيفة التي تنشر رسومات ناجي العلي، أن يبدأ قراءة الجريدة من الصفحة الأخيرة، المساحة المخصصة لكاريكاتور يحمل توقيع “حنظلة”، على عكس المعتاد في قراءة باقي الصحف، التي تبدأ بالمانشيت والافتتاحية. وقد كتب دكتور علم الاجتماع، الكاتب السياسي ” باسم سرحان ” في مقالته الهامة عن حادثة الاغتيال تحت عنوان ” أمانة من ناجي العلي” عن الأثر الذي تتركه رسومات ناجي : ” قوة أي رسم من رسومات ناجي العلي تعادل قوة عشرات المقالات التحليلية والناقدة، وذلك ببساطة لأن موهبة ناجي وعبقريته مكنته من التعبير برسم يوصل رسالة جوهرية حالما يقع عليها البصر ولا يستغرق استيعابها أكثر من ثوان من قبل العامة والخاصة، ومن قبل الفلاح الفلسطيني البسيط شبه المتعلم والمثقف الفلسطيني على حد سواء “.

  لقد دفع ناجي ثمن موقفه وشجاعته، فاستهدف بالقتل لأنه تمرد على كل ” نظريات التضليل” من أن السياسة ” فن الممكن ” و” انقاذ ما يمكن إنقاذه “، وعارض بالريشة والكلمة ” سلام الشجعان ” الذي يؤدي للتنازل عن الحق التاريخي بالوجود والبقاء على أرض وطن الآباء والأجداد.

  استطاعت طلقات الغدر والعمالة أن تقضي على ” ناجي الجسد ” لكنها لم ولن تستطع أن تقتل الفكرة التي حملها ” حنظلة ” المُستقر في ضمير وروح كل إنسان حر وشريف.

*  كاتب وسياسي فلسطيني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى