وأنا أسير في شوارع المخيم، وسط الركام وأزيز الرصاص، والنزوح المتكرر، والموت الذي لا ينتهي، شعرت بأن الأرض ستبتلعني وتبتلع كل ما عليها، فقد ذكرني مشهد الدمار، ومشهد النازحين المشردين على الطرقات من بيوتهم بيوم تركنا بيوتنا ونزحنا نحو البحر، لا نعرف خطواتنا إلى أين ستأخذنا عندما أجبرنا العدو الصهيوني على ترك منازلنا.
في ذلك اليوم المرعب، شعرت بأن شيئًا ما يسرق مني طفولتي، وكنت حينها كلما سمعت صوت الطيران يهدر في السماء، أشعر بأنه سيصب نيرانه عليّ وأنا أسير في الطريق الذي كان يشدني إلى الخلف. كنت أشعر بأن قذيفة ستسقط فوق رأسي، وبأن الأرض ستقبض على روحي كما قبضت على جثث أولئك الذين التهمتهم نيران العدو.
الناس الهاربون من أزيز الرصاص الذي يتبع خطواتهم أشبه بالزلزال الذي يحدث داخلك رجفة قوية، تتخيل بأنك تشاهد فيلم رعب، مشاهد متتابعة لعنف وموت، ودمار لا ينتهي. أولئك الناس ليسوا أشبه بالزلزال، بل هم يعيشون على فوهة بركان متحرك لا تعرف متى ينفجر، ولماذا.
عندما شاهدتهم يتراكضون خوفًا من أن تصيبهم شظايا القذائف، يصرخون ويولولون، يندهون على أطفالهم الذين انفرطوا من حولهم كحبات العقد. شعرت بالقهر ينسرب إلى داخلي، وددت لو أصرخ، رغبت في أن أمسك الظلم وأعصره بيدي كما أعصر حبة ليمون فوق الطعام، لا، إن الليمون أفضل بكثير من أولئك الذين يقتلون الناس بدم بارد، وأنا أشاهد ذلك المنظر، كنت أسمع أصواتًا غريبةً ومخيفةً تنبعث من بعيد، شعرت بأن هناك شيئًا يتمرد في داخلي، نعم، اتضح لي بأن الصوت خارج مني، من نفسي التي لطالما تألمت طفولتها وهي تتشرد من مكان إلى مكان أيام حروب عدة شهدتها وأنا طفلة. شعرت بوجع أولئك الأطفال الذين يتشهون لقمة خبز وشربة ماء.
لا أظنهم في هذا، وهم يختبئون خلف حاويات النفايات، يفكرون بالسكاكر أو البوظة، أو حتى بألعاب تسليهم وتفرحهم. أولئك الأطفال ماتت طفولتهم قبل أن تولد، وبينما أنا هناك، سمعت صوتًا قويًّا ينخر أذني، وإذ بقذيفة تسقط بالقرب مني. لم أعرف ماذا أفعل، كيف أحتمي، إلى أين أهرب، والمكان الذي أنا فيه شارع على جانبيه أشجار، وفي وسطه حاويتا نفايات.
الوضع الذي كنت فيه محيرًا، فقد كان المشهد مرعبًا، أطفال يتراكضون بسرعة البرق، وقد أصابت شظايا القذيفة امرأة في رأسها وطفلة في بطنها، وعندها صارت ذاكرتي تستحضر صور الذين ماتوا في الاجتياح الإسرائيلي للبنان، كصورة مرسومة بألوان الخوف والرعب. كانت ليلتي حينها مرعبة، لكني ملت إلى السكون، وفجأة شعرت بأن السماء اهتزت من فوقي، وأتاني صوت صراخ وعويل من بيت عمتي، فقد سقطت حينها قذيفة بالقرب منه وأكلت لحمه وحرقت حياته واقتلعت رجله. مات جسر البيت وسنده بقذيفة عمياء، ربما تكون قد أخطأت هدفها.
أظلمت الدنيا في عيني، وشعرت بالخوف والقلق والاضطراب، وبدأ الفزع يأكل جسدي.
ركضت بسرعة، وأزيز الرصاص يلاحقني، لكني لم أكن أتوقع بأن أنجو من شظايا القذائف المتناثرة في الجو كالغربان.