"مجانين" في المقاهي

العربي الجديد- فيصل خرتش
06-08-2023
انتبه أبو الخير إلى طاولتنا، قبل أن يضع فناجين القهوة. كان حذرًا تمامًا كي لا يقوم أحد في أثناء وضع الفناجين: لقد أصبحوا ستة عشر، البارحة زادوا واحدًا. وضع الفناجين وانصرف، وعمومًا هذا الرقم مبالغ فيه، أو أنّ عددهم هكذا منذ اشتغل في هذا المقهى. الذي قصده البارحة رأيناه جميعًا، فقد كان يجلس إلى الطاولة الصغيرة التي بجانب الباب. نهض فجأة، وذهب إلى المغسلة، غسل وجهه ويديه أكثر من عشرين مرّة، ثمّ عاد. جلس لعدة دقائق ثمّ نهض من جديد إلى المغسلة. أيضًا صار يكبّ الماء على نفسه، وعلى الجاكيت والبنطال والقميص، وعلى رأسه، وجاء إلى الطاولة. كان يزرب ماءً، وفي غمرة هذا الوضع أشعل سيجارة، ونفخ دخانها في الهواء، ثمّ أخذ يضحك من كلّ قلبه، يضحك ويضرب على الطاولة، ويهزّ بيديه ورجليه. ثمّ إنّ عيار الضحك زاد لديه، فانفجر حتى انقلب على قفاه، وصار يصرخ بـ هرّوه، مرات عدة. ثبت نظارتيه بيده اليسرى، لأنهما كادتا أن تقعا، ثمّ قام إلى الرقص، إنما في المكان، تقريبًا عشر جولات، أقعى بعد ذلك، وأشعل سيجارة أخرى عوضًا عن تلك التي تشتشت بين يديه. أزاح رأسه إلى الوراء، ثمّ أخذ يضحك.
يقع المقهى في شارع بارون، بجانب سينما أوغاريت، وأمامه بائع زهور، وعلى يسار السينما يقع المدخل، لكن قبل أن تدخل تلمح واحدًا من المثقفين وقد ألصق على الجدار خمس ورقات مدروزات، كتب عليها أسماء الكتاب والمثقفين الذين لهم تنظيم سياسي، كتب اسم الكاتب، أو المثقف، واسم أبيه، وأمه، وأين ولد، وتاريخ الولادة، ثمّ تنظيمه السياسي. أنا كان لدي عقل وطار، لم أدخل في ذلك اليوم إلى المقهى، بينما هو وقف يضحك، وقد قالوا لنا إنّ الأمن قد أخذوه، ونظرًا إلى أنّ صديقه كان رئيس الفرع فقد أفرجوا عنه بعد أسبوعين (كان صديقه في دار المعلمين قبل أن ينقل إلى فرع الأمن). عاد إلى جلسته بين مثقفي المقهى وكأنّ شيئًا لم يكن، ثمّ فعلها في مقهى آخر، وفي زمن آخر، وذلك عندما وقف على كرسي، ووضع رجلًا على الطاولة، كان بيده ثلاث ورقات، وأخذ يخطب، ويسب ويلعن الهرم من وسط القمة حتى أسفلها، هم يجوعون الشعب، ويظلمونه، وإنّ لكلّ ظالم نهاية. وخلال دقائق، أقفرت المقهى من روّادها. انشقت الأرض وابتلعتهم، لم يبق إلا هو، وصار يضحك من كلّ قلبه، ثمّ استراح. وقيل إنّ الأمن قد أمسكوا به، وإنّه بقي عندهم شهرًا وتركوه، وهو الآن في هولندا يصرخ كما يشاء.
عندما تدخل إلى المقهى لا بد أن تلمح أبو بوغوص، إنّه يجلس على الطاولة الثانية بعد المدخل، وهو بكامل أناقته، يرتدي طقمًا وقميصًا وربطة عنق، يشعل سيجارة فخمة، وقد حلق ذقنه اليوم، يصرخ على (أبو الخير) فلا يرد عليه، ثمّ يجلب له فنجانًا، ويبدأ الكلام مع نفسه "أنا عندما كنت في الكندا، كانت القرود السود تخاف مني، الأقمار الصناعية تتجسس عليّ، طز فيكم، وفي الزعيم تبعكم، ولك تفو عليكم"... وأبو بوغوص هذا لا أحد يضاهيه في طولة البال، إنّه ينهض ويتقدّم إلى الباب، ثمّ يمشي إلى بائع الزهور، يقف على الرصيف وينظر إلى الأعلى، يظلل بيده عينيه ثمّ يبدأ بالشتم، ربع ساعة، نصف، أكثر، لا يهمّ، وفي النهاية يعود منتصرًا، يدخل من الباب دخول الفاتحين، يجلس ويدقّ على الطاولة "أنا أبو بوغوص الزعيم الأوحد، روح جيب جيوشك لتأخذني، خسئت! لن تستطيعوا أن تهزموني".
وبعد قليل يأتي أمير الشعراء، بيده ربطة خبز، والثانية فارغة يلوّح بها، يفتح باب المقهى، ثمّ يقف على الأطلال ويصفها، بعد ذلك ينتقل إلى وصف الظعائن، وحمر الوحش، ليصل إلى غرضه، واليوم الغرض يكون في وصف حالة الشعب، وما وقع عليه من ظلم، ويقال إنه في ظلّ إحدى الحكومات السابقة اعتقل، ثمّ خرج هكذا. وأمام المقهى تجد رجلًا حافي القدمين، يربط رأسه بشريط، فيبدو مثل زهرة القرنبيط الصغيرة، تدرّع بقميص مفتوح الصدر، وبنطال نسائي، من ذلك الذي يستخدم في البيوت، لونه رمادي، وقد راح يكتب على الجدار "أنا عنتر".
من بعيد جاءت معذبته، وقفت على رصيف بائع الزهور، التفتت ذات اليمين وذات الشمال، ثم ركزت بصرها على أحد ما في المقهى، وابتسمت، كانت تلبس معطفًا سميكًا ونحن في الصيف، كان شعرها منسدلًا، ويقال إنها جاءت إلى هنا من بلاد بعيدة، وأنها عملت في أحد الملاهي ثمّ أحبّت أحد روّاد المقهى، وصارت تتردد إلى هنا بعد أن أخذوا جواز سفرها وعاملوها بشكلّ تعسفي، وأهانوها في عملها، فاشتعل رأسها، وصارت تمشي كلّ الليل تبحث عن حبيب تتسلّى معه.
إمورتال لا كتيفروز، وفي هذه الجملة ترجمة لاسمه، بالفرنسية (خالد شنينة) طبع اسمه على كرت، وصار يوزعه على الناس، يأتي إليك وأنت جالس مع أصدقائك فيبتسم لك ثمّ يمد يده ليعطيك الكرت، وعندما تنظر إليه يبتسم لك، ويقول لك: "لقد أجهض الحلم"، ويمضي إلى طاولته. يجلس واضعًا يده تحت صدغه على عادة المفكرين، ربما متشبهًا بأدونيس، أو غيره، فهذا لا يهمّ إطلاقًا.
في مقهى الشباب الوضع مختلف. المكان صيفي وشتوي، والعصافير تغرد، والحمام يهدل، وكلّها تتنقل بين الأشجار التي تعرش فوق المكان. وهنا يجلس مدرّس اللغة العربية، يخرج هاتفه النقال، ويوجهه على أغنية لفريد الأطرش، ويرفع الصوت، أيضًا يضع يده تحت صدغه، ويروح يستمتع بالأغنية، وبعد قليل من التجلي، يبدأ بالبكاء، ثمّ ينوح على حبيب يفتقده، ويعانق الشجر. هذا يتمّ في الصيفي، أما في الصالة الشتوية، حيث لا أحد إلا شلة المثقفين يغذيهم اثنان ضليعان باللغة العربية متمكنان منها، ويستطيعان أن يحلا أصعب المسائل النحوية والبلاغية، ودائمًا يتناقشان في مسائلها النحوية وينتهيان بسعر البندورة والخيار والباذنجان، يبدآن بإحدى المشكلات البلاغية، وينتهيان بأجور السرفيس، وغلاء اللحم والبيض، أما صاحبنا فيكون موسم فريد الأطرش قد ولّى، وبدأ الموسم الفيروزي، فيضع هاتفه النقال على إحدى مجموعاتها الرائعة ويمضي أيضًا في البكاء. يجلس وحيدًا في أقصى المكان، حيث الصورة تملأ المكان لشجر في أيام الربيع.
شاعر المكان الذي اكتشف أنه يمكن أن يقول الشعر بعد أن تقاعد بخمس سنوات، بدأ يلقي القصائد في المناسبات العامة الكثيرة، فكان يقول الشعر الموزون والمقفى، ثمّ اكتشف أحد دواوين محمود درويش، فأخذ ينهل منه، من دون حياء، إنه يلقي القصائد على أناس لا تقرأ، إنهم يصفقون فقط، يدخل إلى المقهى وبيده الهاتف النقال، لا يستقر في مكان، وإنما يضع يده اليسرى في جيبه، واليمنى يرفعها إلى أذنه، ويبدأ الكلام، ولكن من طرف واحد، غالبًا ما يخاطب أنثى، يبتسم لها ويتحدّث بأحاديث خاصة، يظلّ على هذه الحالة لأكثر من نصف ساعة، يستريح قليلًا ثمً يعود للكلام مرّة أخرى، وهذا واحد آخر، لقد جاء متأخرًا، مكانه محفوظ، وطاولته لم يجلس عليها أحد، أصلع إلا من بقايا شعر يصبغه بالأسود الغامق، يجلس وحيدًا ويبدأ بإطلاق صيحته الطرزانية، وذلك بعد أن يجلب له أبو علي كأس البابونج، يصرخ واحدة عند الدخول، وواحدة قبل أن يخرج بدقائق، وذلك قبل أن يفتح فمه ويغلقه، لقد بدأ موسم النوم عنده، ينهض من طاولته وعلى مهل يمضي، مثل السلحفاة، بل أبطأ.


التعليقات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها


الأسم *
البريد الألكتروني
البلد *
التعليق *
رمز الحماية: أكتب الثلاثة أرقام السوداء فقط captcha image
New Page 1