حين ينام الأطفال- انتصار الدنان

العربي الجديد
10-03-2023
تراجعتِ الرّيحُ قليلًا، قبل أن تتّخذ قرارها. رأت أطفالًا صغارًا يهنؤون بالنّوم، لكنّها، أخيرًا، غضبت غضبًا شديدًا، وهزّتِ البيوت هزًّا تأرجحتِ منه الأرض، فأخرجت كلّ ما فيها من قسوةٍ، فازداد ارتجاج البيوت المتهالكة من تعب السّنين الطّويلة، وراحت حوائطها تلفظ كلّ تلك الحياة الّتي كانت تتغلغل فيها، وما هي إلّا لحظات حتّى صارت ركامًا مختلطًا بكل ما كان في كلّ تلك البيوت من حبّ، وراحتِ الأشجار الّتي تحيطها تلوح وحدها مع الرّيح يائسة، ووريقاتها راحت تنفرط وتتطاير في الهواء وتسقط على الأرض، كأنّها تعيش مأساة الفراق.
المكان يعجّ بالحزن. الباقون على قيد الحياة يشعرون بأنّهم ما زالوا يحلمون حلمًا لا يستطيع بشريّ تحمّله. وجوههم ساهمة، وحواجبهم مقطّبة، ونظراتهم حائرة، وانعقدت ألسنتهم. كانت قلوبهم وحدها الّتي تتكلّم وتتألّم، ودمعات الفراق على خدودهم تتدحرج، فهنا أمّ تنادي ابنها العالق تحت الرّكام، وأخرى تشدّ ابنها إلى صدرها بحنان، وأمّ تلطم خدّيْها حرقة على ابنها الّذي تقطّعت أطرافه، وهنالك أخٌ يعانق أخاه ويهنّئه بالسّلامة، والاثنان في موقف المذبوح، ينتحبان على أمّهما وأبيهما وأخوتهما الّذين أكلهم التّراب. وفي الجهة الثّانية، أبٌ ينكش التّراب ليخلّص يد ابنه الّتي امتدّت إليه، ليخلّصها من هول الموت. وهنا أصدقاء وأقارب تأخذهم الرّياح إلى عالمٍ آخر، كأنّها تنقلهم إلى عالمٍ، وإلى زمانٍ غير زمنهم، تارةً تراهم يبكون، وأخرى يضحكون، وكأنّ المشهد الّذي أمامهم خارج مدار الأرض.
راحتِ البيوت مرّةً أخرى ترتجف، بعد أن اسودّ زجاجها، ولفظت كلّ ما فيها. كان ذلك المساء حزينًا، واستيقظ على صباحٍ يموج بالدّم والموت والدّمار.
سرت بخطواتٍ متثاقلةٍ أبحث عن أثرٍ لصديقٍ كان يسكن هذه المنطقة المنكوبة، فوجدت كل ما حولي ركامًا. وقفت في مكاني، ورحت أنادي عليه. كان وسيمًا، بارعًا في استحداث العبارات الّتي تمحو عنك التعب. سرت، عدْت وتوقّفت، وراحت بي الذّاكرة إلى هذا الشّارع، حين كنت أمرّ فيه، وشعرت بأنّ أولئك الأطفال الذين كانوا يملأونه كأنّهم الغمام الّذي تقتله الأمطار.
مات الزّهر والأطفال والقمح وحبّات النّدى. سكتتِ الأصوات الّتي كنا في الأمس نهابها. عدْت أدراجي، والدّمع يملأ خدّيّ، كأنّني بحرٌ من الأمواج المتكسّرة على شواطئ الموت، أبحث عن بكاءات الأطفال العالقة في زوايا البيوت حين تجتمع الحكايات، لتنسج عباءة من ذكريات.


التعليقات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها


الأسم *
البريد الألكتروني
البلد *
التعليق *
رمز الحماية: أكتب الثلاثة أرقام السوداء فقط captcha image
New Page 1