خمسينية غسان الفلسطيني الذي لا يكتمل إلا بالوطن * مروان عبد العال

المكتب الإعلامي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في لبنان
12-11-2022
يبدو أنه في زمن الخراب والعتمة والفوضى، لا بد من "قناديلُ ملكِ الجليل"، يحمله الصديق الروائي الجميل الأنيق إبراهيم نصرالله، الروائي المناسب في الزمن المناسب وفي المكان المناسب، كي ينير بحضوره خمسينية غسان كنفاني من الشمال الى الجنوب.
والشكر لمنتدى صور الثقافي أصحاب الدعوة في مدينة صور شقيقة عكا، على فوح برتقالنا الحزين، لعلنا نقتفي اثر غسان من محمد الزيات، وكل الأوائل وسائر القامات والحضور ! تحية الى عائلة غسان الصغيرة ولعائلته الاكبر
الوفاء يستدعي استذكار غسان، استعادة الدرس والفكرة التي لا تموت، غياب الجسد لا يعني غياب الفكرة.
اننا لم نفقده رغم درك الانحدار القيمي والمعرفي، ونستحضر الفكرة في سبيل تجديد الوعي، أولاً ضد التفاهة، أو قل استعادة الوعي في وجه خيانة الوعي، والأجدر تأصيل الثقافة بدل ترسيم الثقافة حينما يعتبر البعض العودة الى الماضي تعني "الخشبية"، ولكن في حقيقة الأمر يعتبرون اللغة الأصيلة هي الشذوذ.
هكذا هو زمن الاستسلام الثقافي، والطبعة العربية غير الأنيقة المنقحة امريكياً من اختطاف الربيع الى موسم التطبيع، يوم يصير فيها الغزاة عباقرة، والعبد مفتوناً بسيده، وتجعل من الصهيونية مثالاً جميلاً يحتذى، وليس نموذجاً وحشياً لنحاربه. وما أبدعته الثقافة "الشرق أوسطية" المنضوية تحت غطاء "السلام الإبراهيمي"، وذلك التطبيع الرياضي، لتصبح فيه شروط " الفيفا" اهم من "القمة العربية" واستضافة كأس العالم بكرة القدم فوق الكرامة والحق والهوية والارض واللغة والقدس وفلسطين.
خمسينية غسان لنجدد غسان عندما، عندما نستعيد الجبهة الثقافية التي قاتل من اجلها. بثقافة تحررية وطنية مقاومة ، فكل ثقافة مقموعة ومغيبة ومهمشة، ممولة، لا تسطيع ان تصمد امام غزو ثقافي مضاد!
إليكم الدرس الذي خطه بدمه " بالدم نكتب لفلسطين" والذي يعني" ان يكون لديك الفكرة النبيلة قبل ان تموت" . لأنه المنخرط في قضيته روحاً وجسداً، ضحى بالجسد كي لا تسقط الفكرة، لأنه لا وجود في دماغه لدبابات المستعمرين، والطائرات المقاتلة. الفكرة التي لم يخترقها كاتم الصوت.
غسان المثقف الشامل وغير المكتمل فكرا وادباً وسياسة وفن وثورة وتنظيم ، الكاتب والسارد والمناضل والمعلم والمربي والقائد الذي لا يعرف الحياد مع المستعمر، ولا ينأى بنفسه عن الحقيقة، ولم يضع رأسه في الرمال ويخرج بعد مرور العاصفة، لذلك قراءة التجربة تحتاج ان تحرر من الأحكام والمقاربات التقديسية السطحية والبسيطة، والذهاب إلى سياقاتها.
سر العجينة الكنفانية التي عكست خصوصيته واسهمت في ايصال تجربة كنفاني لما وصلت إليه.. ومن غير الممكن اختزال غسان او تجريده منها:
البعد الأول : التجرية الشخصية اقتلع من وطنه وارضه ومدينته، غسان الإنسان ابن قضيته، ابدع في أنسنة القضية الفلسطينية، اذا لم يكتب عن فلسطين كموضوع، بل يكتب ليكتشف فلسطين اكثر في تفاصيل حياته اليومية اخذنا إليها بغمضة عين . يطارد جمالية الحلم ليصل الى اعماق فلسطين. مرة قرأت ان الناقد د فيصل دراج سأل الناقد احسان عباس وكان يعرف انه كان مقرباً إليه : ما مواقع القوة في شخصية غسان ومواطن ضعفه؟ قال بعد أن شرد قليلًا:"قوته في قلقه المسؤول و ضعفه في اندفاعه وراء كل جديد". الجديد الذي كسر فيه التقليد، لذلك لم يترك للاعداء حرية السطو على حكايةٍ فلسطين.
البعد الثاني: اللؤلؤة التي تشع من كل جوانبها
فكان الاكثر موهبة ، امتلاك غسان ثقافة ومعرفة وموهبة جدية وعميقة وقدرة كتابية مذهلة ، على لسان احد افراد شلة غسان في دمشق قال "كان أقلنا قراءة، وأقلنا رغبة في مناقشة ما نقرأ، ولكنه كان اكثرنا كتابة، وأكثرنا موهبة".


البعد الثالث: المناضل الحقيقي ، من الصعوبة ان تجد مثقفاً عظيماً دون أن يكون سياسياً. ومن العبث أن تتصور غسان المبدع خارج العملية السياسية كوجود حتمي وليس اختيارياً. ذلك في سياق انخراطه الكامل في النضال السياسي بكل أثقاله وتحدياته والتباساته. يكتب الموقف السياسي للجبهة اسبوعياً في مجلة الهدف.
البعد الرابع : الثوري النقدي المنحاز للمستقبل او الزمن القادم ، تبوأ مركزاً قيادياً في الجبهة ، يجمع ثنائيات الواقع والمستقبل، بين الكلي والجزئي في ذات الوقت. لذلك كان ناقدا سياسيا في نصوصه الأدبية، فقد كان أيضا ناقدا أدبيا في نصوصه السياسية. كان ينتقد ويكشف سلبيات وإخفاقات تلك التجربة حتى على مستوى ممارسته الشخصية وممارسة التنظيم الذي ينتمي إليه بصورة مباشرة.
هذه المزيج منحه الالمعية والاصالة والتجدد في الفكر والحزب الثوري وعن رسخ مفهوم الثقافة ووظيفتها ودورها. أدبه كان يبشر بالثورة ويحرض عليها ، على مبدأ اعرف نفسك، كتب مراجعة للتاريخ عن ثورة ال36 و ادب المقاومة والمقاومة هي الاصل ، واعرف عدوك ، كتب دراسته الشهيرة عن الادب الصهيوني، مؤسساً لفكر التحرر الوطني.
انحاز الى الثقافة الحيّة، باحثاً عن الافكار الجيدة المنبثقة من الواقع وبعيداً عن المخيال الايديولوجي الذي توهمه الماركسيون وكتابهم،.. ان نظريته في التحوّل الفكري وكيفية بناء وعي ثوري جديد وممارسة ثورية وليست لفظية، بديلاً للافكار المعلبة والمقولات المسبقة الصنع، وإلصاقها بالجبهة وبناءها الفكري والطبقي واخلاصها للفقراء وابناء المخيمات.
لذلك كان اغتياله استباقياً كي لا يكتمل، اغتيال الثورة القادمة وليست الحالية، يردد عبارة :"نحن لسنا الثورة .. نحن مرحلة التحضير للثورة".
اغتيل كي لا يكتمل ، إنّه الانسان الذي لم يكتمل لم يتجاوز الـ36 عاماً فقط، لم يكتمل حزبيا، ثقافيا، وادبيا ، كان غسان يرفض تنقيح قصصه، ولم يتم كتابة رواياته، كان يكتب وهو يجري ويناضل ، لأنه فلسطيني، لأنه لاجئ، لأنه بدون وطن، غسان الفلسطيني لن يكتمل الا بالوطن.
الجيل الذي بشّر به غسان كنفاني كما وعد ابنة اخته لميس نجم : "... ولسوف يتولى القيادة جيل جديد، أمّا نحن، فلسوف ننتحي جانبا، هؤلاء الاخرين، يا صغيرتي هم انتم، لسوف ندفع لكم من قلقنا ثمن اطمئنانكم، ولسوف تستقرون على حساب ثورتنا.... ان مشيئة التاريخ أن نكون نحن، ونحن فقط جيل الانقلاب"
جيل الانقلاب الثوري، جيل عدي التميمي وتامر كيلاني وعرين الاسود وكتائب المقاومة ، الجيل الذي آمن بفكرة مزلزلة، تودي بكل ما صنعه الكيان وزبانيته وملحقاته خلال سنوات عمرهم الطرية ، كل منهم أدرك يقينه النهائي وآمن بعقيدة المقاومة التي زرعها غسان كنفاني بعبا رة:"ليس أمامكم في اللحظات الحرجة غير الاتجـاه الذي يمضي بصلابة واستقامة والى الامام".

* نص مداخلة عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية، ومسؤولها في لبنان، مروان عبد العال، مشاركاً الروائي إبراهيم نصر الله، في مركز منتدى صور الثقافي، بدعوة من مؤسسة غسان كنفاني الثقافية .، وذلك يوم الجمعة في 11-11-2022





التعليقات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها


الأسم *
البريد الألكتروني
البلد *
التعليق *
رمز الحماية: أكتب الثلاثة أرقام السوداء فقط captcha image
New Page 1