تحدّثتُ معه عبر الهاتف. توفّيت والدته قبل ثلاثةِ أسابيع. طغى الصمت على الكلمات. ولم نجد كلانا جدوى من الحديث أو العزاء.أعرف تماماً شعورَي الفراغ والضياع الخانقين، بالكاد تعرف كيف تنهي يومك، بالكاد تستطيع النجاة. لقد حفظتهما جيّداً مثل درس تاريخ. يكتسب الوقت طعماً لاذعاً، مثل الحديد الصدئ الذي غسله المطر وحوّلته الشمس. ومثل الحديد أيضاً، تشعر بثقل الوقت على وجودك. تتمنّى لو تتمكّن من تحريك عقارب الساعة بشكلٍ أسرعَ قليلاً، لتُقصي عنكَ بضع ساعات أو أيام. وربما مع مرور يوم، شروق شمس وغروبها، ستتغير أحوالك، مثل سير الطبيعة، ولن تضطر إلى إبقاء تلك المشاعر البالية. يجب أن تتحلل في نهاية الأمر، بفعل الوقت والشمس. وفي يوم من الأيام، ستستيقظ لتجدها مرتبة على سريرك، ولن تكون قلقاً، لقد أدركت ما ستفعله في يومك، نشاط روتيني واحد سيكون كافياً.
لذا أخبرتُهُ أن يلتقي بالرفاق، أن يذهب إلى المقهى أو يتمشى. أخبرني أنَّ وجوده أصبح غريباً فجأةً، وأنّه يخاف أن يفقد نفسه أو طريق عودته، لذا يلازم البيت. كنتُ أدرك تماماً ما الذي يعنيه ذلك، لكنني لم أمتلك جواباً. عرضتُ عليه أن ألتقيه في الغد، وبعد صمتٍ ثقيلٍ قَبِلَ.
ها هوذا، أمام باب العمارة يضع كلتا يديه في جيبَي جاكيته، شاخصاً بنظره إلى الشارع أمامه. إنّه الشخص عينه، ذاك الذي عرفته، لا يبدو مختلفاً، ليس أكثر حزناً أو أقل مرحاً. تبادلنا التحية وبدأنا المشي، لم نتفق على وجهة محددة، إذ لم يكن الأمر ذا أهمية بالنسبة لنا. مشينا من دون حديث، ما عدا كلمات تقاذفناها، وأخرى تطايرت من أحاديث المارة والتصقت عنوة بحديثنا.
انتهى بنا المطاف في الجزء القديم من المدينة. كانت شمس الظهيرة تُلهب رؤوسنا، وكنت أتّقي حرّها بالمشي تحت أسوار الدكاكين المغلقة، حَذِرةً من أن أرفس، من دون قصد، قطّةً كسولاً، بينما كان يمشي متثاقلاً، في منتصف الزقاق، واضعاً كلتا يديه خلف ظهره. كان يتفحّص بتمعّن الدكاكين، وأبواب البيوت العتيقة ومصابيح الشارع العالية، وكأنّه يراها للمرة الأولى. وفي كلِّ مرَّةٍ يصادف لوحة خُطَّ عليها اسم الزقاق، يقف أمامها بضعَ ثوانٍ، ثم يتفقّد الزقاق خلفه ويكمل المسير.
توقّفنا عند نافورة صغيرة للارتواء، تركتُ الماء ينساب لبعض الوقت قبل أن أرتشف منه. سألني إن كانت هذه النافورة هنا من قبل، لأنّه لم يسبق له رؤيتها. بكُمِّ قميصي مسحتُ الماء الذي بلَّل نصف وجهي السفلي، ثم هززت كتفيَّ. اقترب من النافورة، وترك الماء ينساب لبعض الوقت قبل أن يملأ كفتي يديه كلتيهما، ويهوي بالماء على رأسه، ثم مرَّر كلتا يديه المبللتين على وجهه وأعاد الكَرَّة، ثم أقفل الصنبور.
أخبرني في طريق العودة أنّه لم يستسِغ رحيل أمّه بشكلٍ كاملٍ، وأنّه حين يستعصي عليه النوم في الليل أحياناً، أو أثناء النهار، يجلس القرفصاء أمام بيت منزله في انتظار عودتها. أخبرني أنّه يُدرك أنّها رحلت، لكنّه لا يستطيع منع نفسه من تصديق أن هناك احتمالاً ولو ضئيلاً في عودتها. قال إنّها تعود إليه في الأحلام، يراها في جنبات البيت، في الشرفة تسقي النباتات الذابلة، بل حتى أنّه يسمع دندتها أحياناً آتيةً من المطبخ.
سألني إن كنتُ أظنّه قد جُنَّ. أخبرني أنَّ كل ما عليه فعله هو جمع شتاتها من أركان المنزل، وإعادتها إلى سابق عهدها. سينتظر يوم مولدها وسيأتي بكلِّ الأشياء التي تحبّها، ولن يكون عليها سوى العودة من جديد.
افترقنا أمام باب عمارته، بعد أن اتّفقنا على اللقاء في الغد. لم ألتقِ أمه يوماً طوال السنين التي عرفته فيها. لا أعرف كيف كان يبدو شكلها أو صوتها، إن كانت سيدة لطيفة، إن كانت لديها عادات غريبة، متى وقعت في الحب للمرة الأولى؟ إن امتلكت قطاً، وصفة طاجن سرية، أكانت تحفظ حروف الأبجدية بالترتيب؟ أو تتحدّث أكثر من لغة؟ هل ما زالت تتذكر أول بيت سكنته؟ هل كانت على اتصال بزميلاتها في الجامعة؟ هل دخلت الجامعة أصلاً؟ هل سبق أن صبغت شعرها؟
فكّرتُ في كلِّ ذلك، في كل الأشياء التي من الممكن أن تعيدها إليه، في كل تلك الأشياء التي لن تُفلح في إعادتها إليه مهما أطلتُ التفكير فيها.