New Page 1

وأنا أسير في شوارع المخيم، وسط الركام وأزيز الرصاص، والنزوح المتكرر، والموت الذي لا ينتهي، شعرت بأن الأرض ستبتلعني وتبتلع كل ما عليها، فقد ذكرني مشهد الدمار، ومشهد النازحين المشردين على الطرقات من بيوتهم بيوم تركنا بيوتنا ونزحنا نحو البحر، لا نعرف خطواتنا إلى أين ستأخذنا عندما أجبرنا العدو الصهيوني على ترك منازلنا. في ذلك اليوم المرعب، شعرت بأن شيئًا ما يسرق مني طفولتي، وكنت حينها كلما سمعت صوت الطيران يهدر في السماء، أشعر


ألفظُ نفسي من نفسي من روحي المتآكلة المحبوكة بجسدٍ متعبٍ من الطيور الجارحة التي تنتظر سقوطي الأخير من الوعود الكاذبة والقلوب الهاربة من كل من يحاول أن يقمع روحي ويضعها في قارورةٍ مظلمةٍ في قبضته روحي الشاسعة التي تشبه السماء والأرض والبحر وتتكسر مثل رقائق الثلج على كفك وترجع من جديد غيمة هائمة تسافر حيثما تشاء وتمطر وتنتهي في لحظة بكاء على كل من هاجروا وتركوا هياكلهم في داخلي. *


قبل أربعين عامًا كان أكثر سكّان القرية مزارعين، يملكون الغنم والدواجن والدوابّ، وكانت الحُمُر مؤدّبة بالزجر الشديد والضرب، فإذا أفلتت من حبل، أو انتهزت غفلة، هاجت وأكلت... وكثيرًا ما يكون ذلك في الهواجر والناس نيام.. يتصايح الناس: بهيمْ مطلوقْ.. ويهرع صاحب الزرع إلى زرعه، وصاحب الماء إلى مائه، وربّ الأتان إلى أتانه المربوطة تحت الزيتونة... ويجري من أصيب زرعه، أو أتانه، ومن لا هدف له، والنساءُ والصبية، وراء البهيم المطلوق...


انتهى شهر الصوم واليوم عيد الفطر. أصوات الصلوات المتصاعدة من المسجد المجاور أيقظته من نومٍ طويل. نظر إلى ساعته، إنها الخامسة والنصف وعليه أن يستعد للخروج لشراء حوائج العيد، ثم الذهاب لزيارة والدته وشقيقاته. لا بُدّ أنّهن مجتمعات الآن في بيت العائلة العتيق بانتظار قدومه على أحرّ من الجمر. ارتدى حسن ثيابه الجديدة البيضاء ملاحظاً أنّ لها رائحة مميّزة عجز أن يتذكّر أين شمّها من قبل. انتعل حذاءه الجديد،حاملاً مظلته الأنيقة لأ


انتبه أبو الخير إلى طاولتنا، قبل أن يضع فناجين القهوة. كان حذرًا تمامًا كي لا يقوم أحد في أثناء وضع الفناجين: لقد أصبحوا ستة عشر، البارحة زادوا واحدًا. وضع الفناجين وانصرف، وعمومًا هذا الرقم مبالغ فيه، أو أنّ عددهم هكذا منذ اشتغل في هذا المقهى. الذي قصده البارحة رأيناه جميعًا، فقد كان يجلس إلى الطاولة الصغيرة التي بجانب الباب. نهض فجأة، وذهب إلى المغسلة، غسل وجهه ويديه أكثر من عشرين مرّة، ثمّ عاد. جلس لعدة دقائق ثمّ نهض من ج


‏أحبك... لأنه وكلما سألني الناس من أنتَ؟ أقول لهم أنتِ. ‏أحبك... لأن هذه البلاد لا تطاقُ إن لم أفعل. ‏أحبك... كي يعرف الآخرون أنني لست معطوبًا إلى هذا الحدّ. ‏أحبك... لأنك الوحيدةُ التي التقطتُّ عندها أنفاسي المنقطعةِ من الآخرين. ‏أحبك... وهذا يكفيني لمواصلةِ اقترافِ الحياةِ بروّية بالغة. أحبك... لأنه وكلما ‏سألني الآخرون إن كنت قد أنجزتُ ما يمكن الحديث عنه طوال عمري... فأقول نعم.. لقد ظفرتُ بك. ‏أ


- من تكونين؟ - أنا ابنة الطيب القاسم - من هو الطيب القاسم؟ - عمي هو الأخضر القاسم - حقًا! نعرفه جيدًا... من لا يعرف الأخضر القاسم! كانت هذه الأسئلة من ضمن الحوار المعتاد معي كلما قصدنا قريتنا الجنوبية الحدودية قادمين من بيروت، أمي وإخوتي الثلاثة وأنا. عمي هو الأخضر القاسم. وليس لأبي إخوة غيره، تقول أمي إنه كان لأبي ثلاثة إخوة قبل ولادته، ماتوا بسبب "صيبة العين"، كانت عيونهم زرقاء وواسعة ورموشهم طويلة وخدودهم زهرية، كان


ماذا يا حبيبتي لو رسمنا على سطح العالم مربعات الحجلة ثم نرمي حجر الحب ونتنطط؟! ماذا لو أرخيت بين قلبينا حبال الغزل كأرجوحة وتركنا الحب يعاود طفولته؟! ماذا لو أغمضت عينّي، وأسندت هامتي إلى جدار الشعر ثم أعد: أحبك، أحبك، أحبك للمرة المئة، بينما تختبئين في دمي! ماذا لو تحديتني في الأحجيات، وكل أحجية أطرحها عليكِ يكون حلّها: اسمكِ، وكل أحجية تطرحينها عليَّ، يكون حلّها: أحبّك؟! ماذا لو لعبنا عسكر وحرامي؛ تسرقين قلبي، فأطا


«نكتشف، أولاً ودائماً، أنه في عمق وعيه، كان يدرك أن الثقافة أصل من عدة أصول للسياسة، وأنه ما من مشروع سياسي دون مشروع ثقافي» (محمود درويش) كنت قد كتبت مقالاً العام الفائت في ذكرى غسان كنفاني بعنوان «الكنفانية والجبهة الشعبية» نُشر في مدونة «مؤسسة الدراسات الفلسطينية». كان المقال عبارة عن استعادة الكنفانية من مدخل «الجبهة الشعبية» لمعرفة أوجه الصراع الفكري وتأثيره في البُنى التأسيسية التي أحدثت دوراً مغايراً في المجالين الحز


العالم شرفة عالمي شرفة. أدعو من أحب وما أحب. أستقدمه كما أشاء. أمحو ما أود نسيانه. أغض الطرف عن كل ما لا أريده. بمعنى آخر، "أرى ما أريد" كما يقول محمود درويش. للقراءة مذاق مختلف هنا. الأرجوحة شرفة. الشرفة أرجوحة. أقطف زهرة متفتحة من أزهاري. الليلة أنهيت قراءة مجموعة بعنوان "أتقطفني" والفجر يطلع. المجموعة قصيدة نثر خالصة. تكتب الشاعرة كوثر الزعبي بأسلوب لا يشبه غيرها، أو يتقاطع معه: "لا أحتاج للتذكر يكفي أن أصحو لأعرف


شققتُ ثوب الوداع، بالدَّمعِ بلّلتهُ. نتفًا، نتفًا، جففتهُ على أحجار الطريق أقدامي تجرُّ أحلامي يا لهذا الماضي، يعود مبللًا، إلى جسدي العاري أغرقُ في مائه وأعترف: أنا لستُ ما يراه الناس امرأةٌ من القرى، نضجتْ كالرمان وبحكمةِ الزيتون، تجرّ رغباتها رغبات تطفو فوق الماء وتموت، والماء يمضي إلى بيتهِ الينبوع رأيت في الحلم، كما يرى النائمُ، رأيت لبوةً في صدري، تسبحُ، وتموت في الطحلب. المستقبل، نا


عزيزي السيد "هجرس": "بالأمس حلمت بأنني أدفنك حياً، صدقاً أقول لك، لقد دفنتك وهللت عليك التراب من دون أدنى شعور، وانصرفت راشداً ولم يخطر ببالي أن أبكي عليك إلا عندما هطل الليل. بكيت على نفسي مستغرباً قدرتي الخارقة على دفنك حياً. ما حدث هو تعبير لخواطري ووجداني وأفكاري التي طغت على أحلامي وكوابيسي المزمنة. إن عقلي الباطن استطاع أن يرسم لك صورة قبيحة جداً. لا تسلني كيف حدث هذا. إنها أفعالك المشينة. أنت تعرف مدى وحشيتك وإجرامك و


تتفتح أمام عينيه، مثل قصة، أو وردة. يراقبها، كيف تصير هي، حين يغمرها ماء دافئ. تلين وتتمدد. ويصبح شكلها أوضح. تصير مثل حقيقتها. تتخلى عن انكماشها، شيئاً فشيئاً. يتدفق هذا المشهد القصير أمام عينيه. يسحره، ثم ينسكب على صدره، مثل موسيقى. يقترب أكثر، حتى يتعلم. يدنو إليها، فيراها، مغمسة بالماء والنور. تقفز في صدره رغبة طفولية. يود أن يصب هذه الدهشة الكثيفة، في كلمات؛ أن يخبزها في حديث مع الناس، حتى تنضج هي، وينضج هو، وينضج الناس


في الليل أفكر وأشعر بطريقة مختلفة تمامًا عن النهار، أسميها أفكار الليل، كل الذكريات تُصبح مُغلفة بالحنين في الليل، من المنفى الأنيق تهب نسائم من الحديقة، أحسّ الأشجار الباسقة تواسيني وأحيانًا تقول لي اكتبي. أقول للأشجار: لا شيء لدي لأكتبه، أنتظر أن أنام، لكن الأشجار تلح علي أن أكتب، بيني وبين أشجار الحديقة والعصافير صداقة عمرها ثلاث سنوات، علمتني الأشجار الأمل والصبر، جميلة في عُريها في الشتاء وساحرة حين تتفتح البراعم وتكتسي


ليس الأمر ضرباً من الحنين المؤلم للمكان، أو لنقل «نوستالجيا» الفقد القسري فحسب، ثمة روح غير مرئية تَغوص في أحمالها وتفاصيلها بين حجارةٍ مرصوفة تُعبِّد الطريق إلى الماضي وغراب ينعق ممزقاً علم الوهم السائد، وحالماً بعودة المستقبل السحيق. حتى الساعة، لم تكن هناك قراءة تنتهج البحث بعمقِ صهيلِ البَوح البُكائي على فَقْد سحرِ المكان، فهناك سر لا يدركه حتى من أفشاه ذاته، حيث سحق الخطاب السياسي براعة الحس الفطري وطغى صوت البكاء العو